الاثنين، 3 سبتمبر 2012

العلامة أبو الريحان البيروني



هو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (و. 362 هـ/973 - 3 رجب 440هـ/12 ديسمبر 1048م) أحد كبار علماء وفلاسفة المسلمين.
هو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، ولد في ذي الحجة 362 هـ/973 بضاحية من ضواحي خوارزم، ويذكر بعض المؤرخين أنه منسوب إلى بيرون وهي من مدنالسند (في باكستان اليوم)، ولكن الأرجح أنه من خوارزم ولكن لكثرة مقامه خارجها أطلق عليه "البيروني"، وهي تعني "الغريب" أو الآتي من خارج البلدة، وقد التبس اسمه مع الخوارزمي الرياضي الشهير عند بعض المحدثين. وقد اختلفت المصادر في أصله: هل هو فارسي أم تركي؟ وهذا الأمر لن يزيد أو ينقص منه شيئًا.
لا يؤرخ مؤرخ لأبي الريحان إلا ويقر له بالعظمة في العلم، بل ويصل بعض مؤرخي العلوم من الغربيين إلى أنه من أعظم العلماء في كل العصور والأزمان، مثل "جورج سارتن" – المؤرخ العلمي الشهير، صاحب كتاب تاريخ العلم -.
ولم يكن البيروني يطلب المال بعلمه، فقد أرسل له أحد ملوك الهند "محمود الغزنوي" حِمل فيل من الفضة، فاعتذر عن قبوله لعدم حاجته إليه، ولم يكن ساعيًا لمنصب، فقد حدَّد أحد الملوك إقامته في بيته؛ لأنه أصر على رأيه المعارض للملك، ولم يكن راهب علم وحسب، بل كان رجل سياسة وفكر، تولى العديد من المناصب الهامة في الدولة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لولا عمله في السياسة لتضاعفت مؤلفاته، وكان أصحاب العقول من الملوك يقولون له:
العلم من أشرف الولاياتيأتيه كل الورى ولا ياتي
والله لولا الطقوس الدنيوية لما استدعيتك، فالعلم يعلو "ولا يُعلى". قد عاصر البيروني العديد من ملوك وسلاطين الهند وخوارزم، من أمثال أبو العباس المأمون، ومحمود الغازي بن سبكتكين، وابنه مسعود الغزنوي.
وقد كان للبيروني علاقات بمختلف علماء عصره، من أمثال ابن سينا والفلكي أبي سهل عيسى النصراني، وقد أتقن البيروني العديد من اللغات إلى جانب الخوارزمية – لغة بلده - والعربية، فقد أتقن الفارسية والسريانية والسنسكريتية (لغة مستخدمة في الهند) واليونانية، وقد ساعده ذلك على الاطلاع على أصول العلوم في لغاتها الأصلية دون التورط في الترجمات وأخطائها المحتملة.
وقد كتب أبو الريحان عددًا كبيرًا من المؤلفات في مختلف العلوم، ونقل في كتبه آراء علماء الشرق والغرب القدماء، وناقشها وأضاف إليها، فوضع المؤلفات في مناقشة المسائل العلمية المختلفة، مثل وصفه لصورة واضحة في تثليث الزوايا في حساب المثلثات والدائرة، وبحث بحثًا مستفيضًا في خطوط الطول والعرض، ودوران الأرض حول محورها، كما بحث في الفرق بين سرعة الضوء وسرعة الصوت، وأوضح الفرق الكبير بين سرعتيهما، كما استخدم قاعدة الأواني المستطرقة في شرح تدفق الينابيع والآبار الارتوازية، هذا بالإضافة إلى ما كتبه في تاريخ الهند.

أهم كتبه

ومن أهم ما كتب البيروني كتاب "الصيدنة" وهو في علم الصيدلة (ويطلق عليه في التراث الأقرباذين)، وكتاب "الجماهر في معرفة الجواهر" وهو من أنفس ما كتب؛ إذ في هذا الكتاب يوضح أنواع الأحجار والجواهر وخصائصها الطبيعية، ويوضح كيفية قياس الوزن النوعي لها، وفي قياسه للأوزان النوعية يوضح الأوزان النوعية لبعض العناصر بما لا يخرج عما استقر عندنا الآن في ظل العلوم الحديثة.

الكتاب الأول: كتاب "الصيدنة"

هذا المخطوط يقع في 427 صفحة، والنسخة الموجودة مؤرخة بتاريخ 678هـ، وهي بخط إبراهيم بن محمد التبريزي، وقد نقلها الناسخ عن نسخة بخط المؤلف الأصلي وهو البيروني.
والمخطوطة مقسمة إلى مقدمة وخمسة فصول:

الفصل الأول

وفيه عرف لغويًّا كلمة "الصيدنة" و"صيدناني" وأنها معربة عن "جندل" و"جندناني" وهما كلمتان هنديتان تعبران عن بائع العطور والأعشاب والأدوية، والقائم بمزجها، وحرف "ج" الهندي يقلب "ص" في العربية، وأصل "الجندل" هو نبات شهير عند الهنود والعرب، وهو في العربية "الصندل"، ثم أوضح أن لفظة "الصيدلاني" أفضل في التعبير عن هذه المهنة، وهذه اللفظة التي اختارها هي المستقرة في اللغة العربية اليوم، وقام بتعريف مهنة الصيدلاني بأنها "وهو المحترف بجمع الأدوية على أحمد صورها واختيار الأجود من أنواعها، مفردة ومركبة على أفضل التراكيب التي خلَّدها مبرزو أهل الطب، وهذه هي أولى مراتب صناعة الطب...".

الفصل الثاني

وفيه قام بشرح الأدوية والعقاقير، والابتداء كان بتعريف أصل كلمة "عقار" وهي كلمة سريانية تعني الجرثومة وتعني الدواء القاضي عليها، وقد قسَّم العقاقير إلى ثلاثة أنواع:
- الأدوية. – الأغذية. – السموم.
وكل منها فيه ما هو مفرد وما قد يكون مركبًا، وأن الدواء السُّمّي يحتاج إلى محترف بارع مجرب حتى يخفف أثر السم، ويحصل على فائدته للجسم العليل.

الفصل الثالث

وفيه يشرح البيروني أنواعًا من الأدوية المفردة، وأنواعًا من المركبة، ثم يقوم بشرح دور الصيدلاني في أمرين:
أحدهما الحذف: وهو أن ينقص الدواء من أحد العناصر الموصوفة من الطبيب متى عجز عن توفيره، وهذا حرصًا على توفير الدواء الممكن لعلاج المريض، ولكن يجب أن يفقه الصيدلاني أهمية العنصر لسائر العناصر ودوره في علاج المرض.
والثاني التبديل: وهو إبدال عنصر مكان عنصر، وذلك في حالة إذا ما توفر نوع قريب الشبه في الخصائص والأداء في الجسم من عنصر مفقود، وهذا يحتاج إلى معرفة دقيقة بخصائص العناصر المختلفة وأدائها في الأجسام وعملها مع غيرها من العناصر في إزالة العلل من الأجساد، وهذا قد يتطلب تغيير نسب الدواء المنصوص عليها، وهذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة طويلة، وذلك حتى لا يجلب الضر للمريض بدلاً من الشفاء؛ وهنا يشيد البيروني بالأطباء والصيادلة اليونان وفضلهم في هذا المجال.

الفصل الرابع

وفيه يشرح البيروني مآثر اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن سائر الأفكار والعلوم، وفضلها على سائر اللغات الأخرى، وسعتها في تقبل المصطلحات العلمية الوافرة من العلوم المترجمة من الحضارات والثقافات الأخرى.

الفصل الخامس

وفي هذا الفصل يشرح طرائق الحصول على العلوم والمعارف من منابعها الأصلية، وأهمية معرفة لغات عديدة، ويقول عن نفسه: إنه يعرف أسماء الأدوية والعقاقير في اللغات المختلفة، ويوضح خطورة الخطأ في قراءة اسم العقار، خاصة أن العربية بها خاصية التشكيل التي قد تغير معنى اللفظة تغييرًا كليًّا، ويضرب الأمثلة على ذلك من خلال عرضه لبعض الروايات في صرف أدوية خطأ بسبب القراءة المغلوطة لاسم الدواء، ثم بدأ في عرض أسماء مجموعة كبيرة من الأدوية، مع شرح دور كل عنصر فيها وخصائصه، واسمه في اللغات المختلفة، وقد جعل ذلك على حروف المعجم.
وفي شرحه للعناصر نجد أمورًا يوردها في بساطة على أنها من الأمور المشهورة والمعروفة عنده، وهي مما اكتُشف حديثًا، مثل حديثه عن "الإسرنج" وهو أكسيد الرصاص الأحمر وكيف تؤثر النار فيه، وفعل الكبريت المنصهر أو بخاره في هذا الأكسيد، وتغيُّر لون الأكسيد في كل تجربة.
كذلك يصف طريقة تحضير "الزنجار" وهي كربونات النحاس القاعدية وكيفية استعمالها في التهابات العيون، ووضّح الفرق بينها وبين كبريتات النحاس، وأن الأولى تتحول إلى اللون الأحمر الغامق عند التسخين بعكس الثانية، وهو ما عرف الآن أن كربونات النحاس تتحلل بالتسخين إلى أكسيد النحاس وثاني أكسيد الكربون، أما كبريتات النحاس فلا تتغير في اللون.
وكذلك يصف استخراج الزئبق فيقول "وأحجاره حُمْر تنشق في الكُور (أي في الفرن الساخن) فيسيل الزئبق منها".
ومن هذا العرض المختصر نستطيع أن نتعرف على صورة من أداء العلماء في علم الصيدلة، وكيف جمعوا تراث من قبلهم، وأضافوا إليه، ونقلوه إلينا، ولكن لما كانت أيدينا مشغولة بقتال بعضنا بعضًا، أخذ آخرون هذه العلوم، وصاروا بها قادة لركب الحضارة الإنسانية.
وسوف يزداد اليقين بدور علماء الإسلام في كتاب البيروني الثاني "الجماهر في معرفة الجواهر".

وبلغ من تقدير الهيئات العلمية لجهود البيروني أن أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية في سنة (1370هـ= 1950م) مجلدًا تذكاريًا عنه بمناسبة مرور ألف سنة على مولده، وكذلك فعلت الهند. وأنشأت جمهورية أوزبكستان جامعة باسم البيروني في طشقند؛ تقديرًا لمآثره العلمية، وأقيم له في المتحف الجيولوجي بجامعة موسكو تمثال يخلد ذكراه، باعتباره أحد عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم على مر العصور، وأطلق اسمه على بعض معالم القمر.

استقبال الحياة

استقبلت إحدى قرى مدينة "كاث" عاصمة خوارزم مولودًا ميمونًا هو أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي المعروف بالبيروني في (2 ذو الحجة 362هـ= 4 من سبتمبر 973م)، والبيرون كلمة فارسية الأصل تعني "ظاهر" أو خارج. ويفسر السمعاني في كتابه "الأنساب" سبب تسمية أبي الريحان بهذه النسبة بقوله: "ومن المحتمل أن تكون عائلة أبي الريحان من المشتغلين بالتجارة خارج المدينة، حيث بعض التجار كانوا يعيشون خارج أسوار المدينة للتخلص من مكوس دخول البضائع إلى داخل مدينة كاث".
ولا تُعرف تفاصيل كثيرة عن حياة البيروني في طفولته، وإن كان لا يختلف في نشأته عن كثير من أطفال المسلمين، حيث يُدفعون إلى من يعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودراسة شيء من الفقه والحديث وهو ما تستقيم به حياتهم. ويبدو أنه مال منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغف بتعلم اللغات، فكان يتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية، وتلقى العلم على يد أبي نصر منصور بن علي بن عراق، أحد أمراء أسرة بني عراق الحاكمة لخوارزم، وكان عالمًا مشهورًا في الرياضيات والفلك.

في طلب العلم

أجبرت الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم البيروني على مغادرتها إلى "الري" سنة (384هـ= 994م)، وفي أثناء إقامته بها التقى بالعالم الفلكي "الخوجندي" المتوفى سنة (390هـ= 1000م) وأجرى معه بعض الأرصاد والبحوث، ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في إجراء الأرصاد، ثم لم يلبث أن شد الرحال إلى "جرجان" سنة (388هـ= 998م) والتحق ببلاط السلطان قابوس بن وشمكير، الملقب بشمس المعالي، وكان محبًّا للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة العلم وأساطين المعرفة، وتزخر مكتبته بنفائس الكتب، وهناك التقى مع "ابن سينا" وناظَرَه، واتصل بالطبيب الفلكي المشهور أبي سهل عيسي بن يحيى المسيحي، وتتلمذ على يديه، وشاركه في بحوثه.
وفي أثناء إقامته بكنف السلطان قابوس بن وشمكير أنجز أول مؤلفاته الكبرى "الآثار الباقية من القرون الخالية"، وهو كتاب في التاريخ العام يتناول التواريخ والتقويم التي كانت تستخدمها العرب قبل الإسلام واليهود والروم والهنود، ويبين تواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، ويبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.
وظل البيروني في جرجان محل تقدير وإجلال حتى أطاحت ثورة غاشمة ببلاط السلطان قابوس سنة (400 هـ= 1009م) فرجع إلى وطنه بعد غياب، واستقر في مدينة "جرجانية" التي أصبحت عاصمة للدولة الخوارزمية، والتحق بمجلس العلوم الذي أقامه أمير خوارزم مأمون بن مأمون. وكان يزامله في هذا المجمع العلمي الرئيس ابن سينا، والمؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه.
عرف أمير خوارزم قدر البيروني فأحله منزلة عالية، واتخذه مستشارًا له، وأسكنه معه في قصره، وظل في معيته سبع سنوات، واصَلَ في أثنائها بحوثه في الفلك حتى استولى السلطان محمود الغزنوني على خوارزم وضمها إلى مُلكه، فانتقل إلى بلاطه، ورحل معه إلى بلاده سنة (407هـ= 1016م).

في بلاط الغزنويين

عاش البيروني في "غزنة" (كابول الآن) مشتغلا بالفلك وغيره من العلوم، ورافق السلطان محمود الغزنوي في فتوحاته الظافرة في بلاد الهند، وقد هيأ له ذلك أن يحيط بعلوم الهند، حيث عكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة، واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات، ودرس جغرافية الهند من سهول ووديان وجبال وغيرها، إضافة إلى عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها المختلفة، ودوّن ذلك كله في كتابه الكبير "تحقيق لما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".
وبعد تولي السلطان مسعود بن محمود الغزنوي الحكم خلفًا لأبيه سنة (421هـ= 1030م)، قرب إليه البيروني، وألحقه بمعيته، وأحاطه بما يستحق من مكانة وتقدير، حتى إنه عندما كتب موسوعته النفيسة في علم الفلك أطلق عليها "القانون المسعودي في الحياة والنجوم" وأهداها إلى السلطان مسعود الذي أحسن مكافأته، فبعث إليه بحمل فيلٍ من القطع الفضية، غير أن البيروني اعتذر عن قبول الهدية؛ لأنه يعمل دون انتظار أجر أو مكافأة، وظل البيروني بعد رجوعه من الهند مقيمًا في غزنة منقطعًا إلى البحث والدرس حتى توفاه الله.

القانون المسعودي

إحدى صفحات مخطوطة كتاب القانون المسعودي
ويعد كتاب القانون المسعودي أهم مؤلفات البيروني في علم الفلك والجغرافيا والهندسة، وهو يحتوي على إحدى عشرة مقالة، كل منها مقسم إلى أبواب. وفي المقالة الرابعة من الكتاب جمع النتائج التي توصَّل إليها علماء الفلك في الهند واليونان والمعاصرون له، ولم يطمئن هو إلى تلك النتائج لاختلافها فيما بينها؛ ولذلك قرر أن يقوم بأرصاده الخاصة بنفسه، ولم يكتف بمرة واحدة بل أربع مرات على فترات متباعدة، بدأها وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، حيث قرر أن يصنع آلته الخاصة ليرصد بها أعماله الفلكية، وليضع حدا لحيرته من تضارب نتائج علماء الفلك، وقام بتعيين الجهات الأصلية وتحديد الأوقات، ومعرفة فصول السنة، ورصد حركة أوج الشمس، وهو أبعد المواقع السنوية بين الشمس والأرض، وقام بقياس طول السنة على وجه دقيق، ودرس كسوف الشمس وخسوف القمر والفرق بينهما، وفسر أسباب ظهور الفجر قبل شروق الشمس باستنامة الغلاف الجوي، وبالمثل شفق ما بعد الغروب وأوقاتهما، وشرح الأسباب التي تمنع رؤية الهلال حتى مع وجوده في الأفق، وأوضح بالطريق الهندسي الحدود النسبية بين القمر والشمس، والتي عليها تعتمد ظروف رؤية الهلال ما لم تتدخل العوامل الجوية، وأوضح الفرق بين النجوم (الكواكب الثابتة) والكواكب السيارة، وابتكر البيروني الإسطرلاب الأسطواني الذي لم يقتصر على رصد الكواكب والنجوم فقط، بل استُخدم أيضًا في تحديد أبعاد الأجسام البعيدة عن سطح الأرض وارتفاعها. كما اخترع جهازًا خاصًا يبين أوقات الصلاة بكل دقة وإتقان.

إسهاماته الحضارية الأخرى

رسم بياني صممه البيروني يوضح أن خسوف القمر يحدث عندما يحجب كوكب الأرض وصول ضوء الشمس إلى القمر
وتجاوزت بحوث البيروني مجال الفلك إلى مجالات أخرى تشمل الفيزياء والجيولوجيا والتعدين والصيدلة والرياضيات والتاريخ والحضارة.
وتشمل جهوده في الفيزياء بعض الأبحاث في الضوء، وهو يشارك الحسن بن الهيثم في القوال: بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين لا العكس، كما كان معتقدًا من قبل. وورد في بعض مؤلفاته شروح وتطبيقات لبعض الظواهر التي تتعلق بضغط السوائل وتوازنها. وشرح صعود مياه الفوارات والعيون إلى أعلى، وتجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب، حيث يكون مأخذها من المياه القريبة إليها.
وفي مجال التعدين ابتكر البيروني جهازا مخروطيًا لقياس الوزن النوعي للفلزات والأحجار الكريمة، وهو يعد أقدم مقياس لكثافة المعادن، وقد نجح في التوصل إلى الوزن النوعي لثمانية عشر مركبًا.
وفي مجال علم الأرض وضع نظرية لاستخدام امتداد محيط الأرض، وقد أوردها في آخر كتابه "الإسطرلاب". واستعمل معادلة معروفة عند العلماء بقاعدة البيروني لحساب نصف قطر الأرض، وتضمنت بحوثه ومؤلفاته في هذا الميدان نظريات وآراء حول قدم الأرض وعمرها وما اعتراها من ثورات وبراكين وزلازل وعوامل تعرية. وله نظريات حول تكوين القشرة الأرضية، وما طرأ على اليابسة والماء من تطورات خلال الأزمنة الجيولوجية. وله بحوث في حقيقة الحفريات، وكان يرى أنها لكائنات حية عاشت في العصور القديمة. وما توصل إليه في هذا الصدد أقره علماء الجيولوجيا في عصرنا الحالي.
ويقر "سميث" في كتابه "تاريخ الرياضيات" بأن البيروني كان ألمع علماء عصره في الرياضيات، وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملمًا بحساب المثلثات، وكتبه فيها تدل على أنه عرف قانون تناسب الجيوب، وقد عمل جداول رياضية للجيب والظل.
وفي علم الصيدلة ألف كتابه "الصيدنة في الطب"، وهو يُعد ذخيرةً علمية ومرجعًا وافيًا في مجال الصيدلة، وهو ينقسم إلى قسمين:
أولهما: هو ديباجة في فن الصيدلة والعلاج مع تعريفات وإيضاحات تاريخية مفيدة. وتمثل المقدمة إضافة عظيمة للصيدلة، وتناول في هذا القسم المسئوليات والخطوات التي يجب على الصيدلي أن يلتزم بها.
ثانيهما: للمادة الطبية، فأورد كثيرًا من العقاقير مرتبة حسب حروف المعجم، مع ذكر أسمائها المعروفة بها في اللغات المختلفة، وطبائعها ومواطنها وتخزينها وتأثيراتها وقواها العلاجية وجرعاتها.
وتفوق البيروني في مجال الجغرافيا الفلكية، وله فيها بحوث قيمة وهو يعد من مؤسسي ذلك العلم، ونبغ أيضًا في الجغرافيا الرياضية، وبخاصة تحديد خطوط الطول والعرض ومسافات البلدان، وله فيها عشرة مؤلفات، وجاءت أبحاثه في الجغرافيا الطبيعية على نسق رفيع ومستوى عال من الفهم. وله في فن رسم الخرائط مبتكرات كثيرة، فقام بعمل خريطة مستديرة للعالم في كتابه "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" لبيان موضع البحار، وله أبحاث كثيرة في كيفية نقل صورة الأرض الكروية إلى الورق المسطح، ومن كتبه في هذا الميدان: "تسطيح الصور وتبطيح الكور"، "تحديد المعمورة وتصحيحها في الصورة".
وكان البيروني لا يستبعد نظريًّا احتمال أن يكون النصف الغربي من الكرة الأرضية معمورًا قبل اكتشاف الأمريكتين، وعند وصفه لتضاريس الأرض ومسالك البحار والمحيطات تكلم للمرة الأولى على أنه ليس ما يمنع من اتصال المحيط الهندي بالمحيط الأطلنطي جنوبي القارة الأفريقية على عكس ما كان شائعًا في ذلك الوقت.

كتبه ومؤلفاته

خريطة للعالم كما تصوره البيروني
ولم يكُفَّ هذا العالم لحظة عن البحث والدرس، وأثمرت هذه الحياة العلمية الجادة عما يزيد عن مائة وعشرين مؤلفًا، نقل بعضها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية، وأخذ عنها الغربيون، واستفادوا منها، ومن هذه المؤلفات غير ما ذكرنا:
- الرسائل المتفرقة في الهيئة، وهي تحتوي على إحدى عشرة رسالة في علوم مختلفة، وقد طبعتها دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (1367هـ= 1948م).
- الجماهر في معرفة الجواهر، وهو من أهم مؤلفات البيروني في علوم المعادن، وطبع في حيدر آباد الدكن بالهند (1355هـ=1936م).
- استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، وطبع أيضًا بالهند.
- جوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم.
-تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، وطبع محققًا بعناية المستشرق الروسي بولجاكوف، ونشره معهد المخطوطات العربية سنة 1962م.
-في تهذيب الأقوال في تصحيح العرض والأطوال.
وإلى جانب التأليف نقل البيروني اثنين وعشرين كتابًا من تراث الهند العلمي إلى اللغة العربية، وترجم بعض المؤلفات الرياضية من التراث اليوناني مثل كتاب أصول إقليدس، وكتاب المجسطي لبطليموس.

أيامه الأخيرة

وظل البيروني حتى آخر حياته شغوفًا بالعلم مقبلا عليه، متفانيًا في طلبه. ويروي المؤرخ الكبير ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء ما يغني عن الكلام في مدى تعلق البيروني بمسائل العلم حتى الرمق الأخير، فيقول على لسان القاضي علي بن عيسي، قال: "دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حَشْرَج نفسُه، وضاق به صدره، فقال لي وهو في تلك الحال: كيف قلت لي يومًا حساب المجدَّات الفاسدة (من مسائل المواريث) فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة! قال لي: يا هذا أودّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا من أن أخلّيها وأنا جاهل لها؛ فأعدت ذلك عليه، وحفظه… وخرجت من عنده وأنا في الطريق سمعت الصراخ…"، وكان ذلك في غزنة في (3 رجب 440هـ12 ديسمبر 1048م).

== من قصة الحضارة == [1] يمثل أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (973-1048م) العالِم الإسلامي في أحسن صورة له. فقد كان البيروني فيلسوفاً، مؤرخاً، ورحالة، وجغرافياً، ولغوياً، ورياضياً، وفلكياً، وشاعراً، وعالماً في الطبيعيات-وكانت له مؤلفات كبيرة وبحوث عظيمة مبتكرة في كل ميدان من هذه الميادين. ومكان عند المسلمين كما كان ليبنتز، ويوشك أن يكون كما كان ليوناردو دافنشي، عند الغربيين. وقد ولد كما ولد الخوارزمي بالقرب من مدينة جنوى الحالية، وتمثل فيه كما تمثل في الخوارزمي زعامة موطنه في غرب بحر قزوين من الناحية العلمية في هذه الأعوام المائة من العصور الوسطى التي بلغ فيها العلم ذروته. وعرف أمراء خورازم وطبارستان فضله وأدركوا عظم مواهبه فأفردوا له مكاناً في بلاطهم. وسمع محمود الغرنوي بكثرة من كان في خوارزم من الشعراء والفلاسفة، فطلب إلى أميرها أن يبعث إليه بالبيروني، وابن سينا، وغيرهما من العلماء؛ وأدرك الأمير أن هذا الأمر واجب الطاعة (1018)، وسافر البيروني ليحيا حياة الجد والهدوء والعزة والكرامة في بلاد المليك المحارب فاتح الهند. ولعل البيروني قد دخل الهند في ركاب محمود نفسه، وسواء كان هذا أو لم يكن فقد أقام العالم الفيلسوف في الهند عدة سنين درس فيها لغة البلاد وآثارها القديمة، ثم عاد إلى بلاط محمود وأصبح فيه من أعظم المقربين لهذا الحاكم المطلق الذي لا يستطيع الكاتب رسم صورة صادقة له. ويقال إن رجلاً من شمالي آسية زار محموداً ووصف له إقليماً ادعى أنه رآه بعينهِ، وقال إن الشمس تظل فيه عدة أشهر لا تغيب أبداً. ولم يصدق محمود هذا القول، وغضب على الرجل وأوشك أن يزجه في السجن لجرأتهِ على المزاح معه وهو صاحب الحول والطول، فما كان من البيروني إلا أن شرح هذه الظاهرة شرحاً أقنع بهِ الملك وأنجى الزائر(26). وكان مسعود بن محمود من الهواة المولعين بالعلم فأخذ ينفح البيروني بالهدايا والأموال، وكثيراً ما كان البيروني نفسه يردها إلى بيت المال لزيادتها على حاجتهِ.
وكان أول مؤلفاته الكبرى رسالة علمية فنية عميقة تعرف باسم الآثار الباقية في التقاويم والأعياد عند الفرس، وأهل الشام، واليونان، واليهود، والمسيحيين، الصابئين، والزرادشتيين، والعرب، والكتاب دراسة نزيهة إلى درجة غير مألوفة، مبرأة إلى أقصى حد من الأحقاد الدينية. وكان البيروني يميل إلى مذهب الشيعة، وكان ذا نزعة تشككية خالية من المباهاة والادعاء؛ غير أنه ظل يحتفظ بقسط من الوطنية الفارسية، وأنحى باللائمة على العرب لقضائهم على ما كان في العهد الساساني من حضارة عظيمة(27). أما في ما عاد هذا فقد كان موقفه موقف العالم صاحب النظرة الموضوعية، المجد في البحث العلمي، النقادة للروايات المتواترة والنصوص (بما فيها نصوص الإنجيل)، المدقق، النزيه، ذي الضمير الحي في أحكامهِ، وكثيراً ما كان يعترف بجهلهِ، ويعد بأن يواصل بحوثه حتى تنكشف له الحقيقة. وقد قال في مقدمة الآثار الباقية مثل ما قال فرانسس بيكن في بعض كتبه "... بعد تنزيه النفس عن العوارض المردية أكثر الخلق، والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة، والتعصب، والتظافر، وإتباع الهوى، والتغلب بالرياسة، وأشباه ذلك.... وبغير ذلك، لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد".
وبينما كان مضيفه يغزو الهند ويدمر مدنها، كان البيروني يقضي السنين الطوال في دراسة شعوبها، ولغاتهم، وأديانهم، وثقافتهم، ومختلف طوائفهم. وأثمرت هذه الدراسة كتابة تاريخ الهند الذي نشره في عام 1030 والذي يعد أعظم مؤلفاته. وقد ميز فيه منذ البداية بين ما شاهده بعينهِ وما سمعه من غيره، وذكر أنواع الكذابين الذين ألفوا كتباً في التاريخ(28) ولم يخص تاريخ الهند السياسي إلا بحيز صغير في كتابه خص أحوال الهند الفلكية باثنين وأربعين فصلاً من فصوله وخص أديانها بأحد عشر. وكان من أهم ما سحر لبه البهاجافاد جيتا وأدرك ما بين تصوف الفدانتا، والصوفية، والفيثاغورية الحديثة، والأفلاطونية الحديثة من تشابه، وأورد مقتطفات من كتابات مفكري الهنود، ووازن بينها وبين مقتطفات شبيهة بها من كتابات فلاسفة اليونان، وفضل آراء اليونان عن آراء الهنود، وكتب يقول إن الهند لم ينبغ فيها رجل كسقراط، ولم تظهر فيها طريقة منطقية تطهر العلم من الأوهام(29). ولكنه رغم هذا ترجم إلى اللغة العربية عدداً من المؤلفات السنسكريتية، وكأنما أراد أن يوفي بدينهِ للهند فترجم إلى السنسكريتية كتاب أصول الهندسة لإقليدس و المجسطي لبطليموس.
وكادت عنايته تشمل جميع العلوم، فقد كتب عن الأرقام الهندية أوفى بحث في العصور الوسطى؛ وكتب رسالة عن الإسطرلاب، ودائرة فلك البروج، وذات الحلق، ووضع أزياجاً فلكية للسلطان محمود. ولم يكن يخالجه أدنى شك في كرية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها، وقال إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام، بنفس السهولة التي تفسر بها إذا افترضنا العكس(30). وقال إن وادي نهر السند ربما كان في وقت من الأوقات قاع بحر(31)، وألف كتاباً ضخماً في الحجارة وصف فيه عدداً عظيماً من الأحجار والمعادن من النواحي الطبيعية وشرح قيمتها التجارية والطبية. وعين الكثافة النوعية لثمانية عشر نوعاً من أنواع الحجارة الكريمة، ووضع القاعدة التي تنص على الكثافة النوعية للجسم تتناسب مع حجم الماء الذي يزيغه(32). وتوصل إلى طريقة لحساب تكرار تضعيف العدد دون الالتجاء إلى عمليات الضرب والجمع الطويلة الشاقة، كما تحدث في القصة الهندية عن مربعات لوحة الشطرنج وحبات الرمل. ووضع في الهندسة حلولاً لنظريات سميت فيما بعد باسمه. وألف موسوعة في الفلك، والتنجيم، والعلوم الرياضية؛ وشرح أسباب خروج الماء من العيون الطبيعية والآبار الارتوازية بنظرية الأواني المستطرقة(33). وألف تواريخ حكم السلطان محمود، وسبكتجين، وتاريخاً لخوارزم. ويطلق عليه المؤرخون الشرقيون اسم الشيخ، وكأنهم يعنون بذلك أنه شيخ العلماء. وإن كثرة مؤلفاته في الجيل الذي ظهر فيه ابن سينا، وابن الهيثم، والفردوسي لتدل على أن الفترة الواقعة في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر هي التي بلغت فيها الثقافة الإسلامية ذروتها، وهي التي وصل فيها الفكر في العصور الوسطى إلى أعلى درجاته.

مؤلفاته