لا يبدي المسؤولون المغاربة والإسبان، وهم المعنيون مباشرة بهذا المشروع الذي سيربط أساسا المغرب وإسبانيا، تشاؤما كبيرا حول هذا المشروع، لكنهم في الوقت نفسه لا يبدون تفاؤلا كبيرا، وهو ما يجعل من هذا الربط القار مسألة معلقة على المستقبل، حيث يمكن أن يبدأ إنجازها في أي وقت، كما يمكن أن يتم التخلي عنها أيضا في أي وقت.
ولن يكون لقرار التخلي عن هذا المشروع، لو حدث، وقع المفاجأة على الكثيرين سواء في المغرب وإسبانيا، وذلك بالنظر إلى أنه كان محط شكوك باستمرار، وما يزيد في تعزيز هذه الشكوك هو أن أشغال الدراسة والبحث استمرت أكثر مما يجب، وهو ما دفع قطاعا عريضا من المغاربة والإسبان إلى اعتبار هذا المشروع خطابا سياسيا أكثر مما هو مشروع اقتصادي بين بلدين تفرقهما المشاكل أكثر مما تجمعهما المشاريع المشتركة.
وتعود فكرة هذا المشروع، الذي أصبح يطلق عليه اسم «المشروع الفرعوني» نظرا لضخامته، إلى سنة 1979، خلال أول زيارة قام بها للمغرب العاهل الإسباني الملك خوان كارلوس الأول، حيث اجتمع مع العاهل المغربي الملك الراحل الحسن الثاني، وتم إطلاق فكرة المشروع خلال حفل عشاء أقيم بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، مدينة فاس. ومنذ ذلك الوقت، دخل الربط القار بين المغرب وإسبانياغياهب النسيان لسنوات طويلة، وكأنه ضفدع سمين دخل كهف السبات الشتوي، ثم خرج منها باحتشام، قبل أن يدخل خلال السنوات الأخيرة غرفة الإنعاش، ليبدو وكأنه مشروع قابل للتحقيق.
ملكان في حاجة إلى شيء ما
جاء إطلاق مشروع الربط القار في ظروف خاصة جدا، وخلال لقاء بين ملكين هما معا كانا في حاجة إلى شيء ما لتدعيم أسس ملكيهما.
ملك إسبانيا، كان بدأ للتو مرحلة حكمه في أجواء عاصفة وبعد خروج من دكتاتورية استمرت أربعة عقود. كان خوان كارلوس الأول يعاني من تذبذب شرعيته لأنه كان حليفا للدكتاتور الراحل الجنرال فرانكو، كما أنه وصل إلى العرش بعد أن انقلب على والده الذي كان يتقدمه في أهلية الوصول إلى هذا المنصب، إضافة إلى الأصوات الكثيرة التي كانت ضده، خصوصا من جانب اليسار الذي كان قويا جدا وقتها، لذلك فإن العاهل الإسباني ربما وجد في هذا المشروع فرصة لكي يظهر بمثابة الملك الواثق من نفسه والطامح إلى إنجازات كبرى. ويقول الكاتب الحافي الإسباني بابلو فيرنانديث سانشيز إنه لو تدخل الملك خوان كارلوس في هذا المشروع في الوقت الراهن لصار ذلك بمثابة مزحة لأنه لا يملك دستوريا مثل هذا الحق، لكن ظروف نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كانت مختلفة تماما عن اليوم.
وبالنسبة إلى الملك الراحل الحسن الثاني، فإنه كان يحاول استتباب فترة مختلفة من حكمه بعد تنظيم المسيرة الخضراء التي استعاد بها المغرب أراضيه الجنوبية في الصحراء.
كان الحسن الثاني أيضا يريد الظهور بمظهر ملك مختلف عما كان عليه خلال الستينات والسبعينات. لقد خرج الملك من انقلابات عسكرية نجا منها نظامه بأعجوبة، ونجا من محاولات اغتيال علنية وسرية، ثم أطلق اسم «المغرب الجديد» على بلد تمزقه الخلافات السياسية، لذلك ارتأى أن مشروعا مثل الربط القار بين المغرب وإسبانيا سيكون الضربة المناسبة داخليا وخارجيا، خصوصا وأن المغرب كان على حافة الدخول في حرب مع إسبانيا بسبب الصحراء، فجاءت فكرة الربط القار معها كأنها بلسم لكل الخلافات السابقة.
العودة إلى الواجهة
ومنذ بضعة سنوات فقط، عاد هذا المشروع إلى الأضواء، وتم تقديم الدراسات المتعلقة به، والتي استمرت تقريبا إلى عقد الثمانينات وجزء من عقد التسعينات.
ومنذ إطلاق فكرة المشروع، استمرت التكهنات والاحتمالات من دون توقف، وتراوحت كلها ما بين فكرة إنجاز جسر معلق فوق مضيق جبل طارق على طول 14 كيلومترا، وهي المسافة التي تفصل بين الضفاف الجنوبية لإسبانيا وبين السواحل الشمالية المغربية، كما تم الحديث عن سكة حديدية تحت الماء في نفق يربط بين الضفتين، وهي سكة حديد مزدوجة لا مكان فيها للسيارات أو المشاة، ثم بدأ الحديث عن نفق تحت الأرض الموجودة تحت مياه المضيق، وهي الفكرة التي تبدو الأنسب حاليا لتحقيق هذا المشروع.
وكان وزير الخارجية المغربي، الطيب الفاسي الفهري، ووزير الخارجية الإسباني، ميغيل أنخيل موراتينوس، قدما قبل بضعة أسابيع على الاتحاد الأوروبي، وأثناء ذلك صرح وزير الخارجية الإسباني بأن هذا المشروع يسير في الاتجاه الصحيح، وأن تنفيذه سيتم على الأرجح سنة 2025، أي بعد 18 سنة من الآن.
لكن أهم ما يعترض سبيل هذا النفق البحري، ليس فقط الصعوبات التقنية، أو الإمكانيات المالية الضخمة التي يجب اعتمادها، والتي تتجاوز 11 ألف مليون دولار، بل هناك منافعه الاقتصادية، والتي يبدو أنها مغرية في نظر المسؤولين المغاربة والإسبان.
ولا يثير هذا المشروع التساؤل فقط بين السياسيين والفاعلين الاقتصاديين، بل هو أيضا محط تساؤلات من طرف الناس العاديين في المغرب وإسبانيا، حيث يتحدثون عن جدواه اقتصاديا وبشريا، خصوصا وأن إنجازه سيتسبب في بطالة المئات أو الآلاف من عمال الموانئ والبواخر المغربية والإسبانية، وسيدفع العشرات من شركات الملاحة البحرية التي تشتغل ما بين طنجة وموانئ الجنوب الإسباني، إلى الإفلاس.
ويعبر مضيق جبل طارق كل عام أزيد من 3 ملايين مسافر، وأغلبهم من العمال المغاربة في بلدان أوروبا، والذين يتوجهون إلى المغرب بداية ونهاية كل عام خلال العطلة الصيفية.
كما سيؤدي استعمال النفق البحري لو تم، إلى توقف أغلب حركة الملاحة البحرية وتوقف عشرات البواخر والسفن السريعة، من دون أن يكون هناك بديل حقيقي ومتميز، حيث إن البواخر السريعة التي تعبر المضيق حاليا لا تتجاوز نصف ساعة بين الضفتين، علما بأن استعمال النفق البحري مستقبلا سيتم في نفس المدة تقريبا.
الشجرة الخضراء.. والأشجار اليابسة
يجمع الخبراء المغاربة والإسبان على أن مسألة ربط قار بين المغرب وإسبانيا مرتبطة بالرغبة السياسية أولا، ثم بعائداته الاقتصادية ثانيا.
لكن كثيرين يرون في العبارات الرومانسية حول الربط بين قارتين وإقامة صلة وصل قوية بين جارين مجرد كلمات بلا معنى، أو مجرد شجرة خضراء تخفي غابة من الأشجار اليابسة.
من بين هذه الأشجار اليابسة أن المغرب لا يتوفر حاليا على طريق سيار حقيقي سيربط مستقبلا بين القناة وبين باقي مدن المغرب وباقي المدن الإفريقية، ما دام أن هدف الربط القار ليس المغرب وإسبانيا فقط، بل أوروبا وإفريقيا بشكل عام.
المشكلة الثانية هي أن القناة سيتم بناؤها وفق المعطيات الحالية التي تشير إلى تفوق كبير على إفريقيا في مجال التنمية. لكن في حال تحركت إفريقيا تنمويا، فإن حركة القناة يمكن أن تصاب بشلل أو باختناق بسبب ازدياد حركة التنقل عبرها انطلاقا من القارة الإفريقية، وهذا يتطلب إما التخلي عن النفق، أو إقامة جسر معلق فوق المياه لاستيعاب الحركة الاقتصادية المتزايدة.
المشكلة الثالثة هي أن الحركة الملاحية البحرية العادية تبدو حاليا ومستقبلا الأفضل من حيث الأرباح، والنفق البحري المرتقب لن تكون له عوائد اقتصادية كبيرة، كما أن المبادلات التجارية بين أوروبا وإفريقيا، أو على الأصح الصادرات الأوروبية نحو إفريقيا، تتم بشكل طبيعي حاليا ومن دون حاجة إلى أي مشروع كبير مثل النفق البحري.
المشكلة الرابعة هي جيولوجية وطبيعية بالأساس. وإذا كان المتحمسون لهذا المشروع يتحدثون عن نفق المانش بين فرنسا وإنجلترا كنموذج، فإنهم يغفلون أن النفق يربط بين جزيرة بريطانيا وفرنسا، وليس بين قارتين. ويعرف الجيولوجيون أن القارة الإفريقية دائمة الحركة جيولوجيا، ومع مرور الوقت يمكن أن يتعرض النفق البحري عبر مضيق جبل طارق لأضرار بالغة، وربما للتدمير التام.
ويقول المهندس الإسباني خوسي لويس ماسان، الذي اشتغل لأزيد من 12 سنة في الأبحاث المتعلقة بمشروع الربط القار، إن بناء نفق تحت أراضي مضيق جبل طارق لن يكون صعبا فقط، بل سيكون خطيرا بالنظر إلى البنية الهشة لأعماق المضيق، لكنه لا يقول إنه مستحيل.
هناك أيضا متفائلون بهذا المشروع، مثل المهندس المتقاعد مانويل إيستيراس، الذي يقول إن إنجاز الربط القار سيجعل الدار البيضاء قريبة من إشبيلية بثلاث ساعات فقط، بينما لن يحتاج المنطلق من مدريد إلى الدار البيضاء سوى إلى خمس ساعات فقط عبر القطار السريع المار عبر النفق.
ويعطي إيستيراس أمثلة بالقنوات الضخمة تحت الأرض، مثل تلك الموجودة تحت جبال التبت في الصين، والتي تستوعب مرور قطارات وشاحنات عملاقة يزيد ارتفاعها عن خمسة أمتار، بالإضافة إلى عائداتها الاقتصادية الكبيرة.
غير أنه ومنذ الآن وإلى غاية تحقيق فكرة هذا المشروع بعد 20 أو 30 سنة، فإن التفكير الواقعي هو الذي يركز على طرق تطوير الاتصال بين ضفتي مضيق جبل طارق بالشكل الموجود عليه حاليا. أكيد أن لا أحد سيجمع يديه في انتظار أن يتم إنشاء النفق، وخلال مدة الانتظار هذه، فإن الكثير من الأشياء ستتطور، بما فيها الربط الجوي بين الضفتين. وربما خلال مدة الانتظار سيصبح إنشاء نفق مجرد خرافة أو حكاية من الماضي، وقد يتذكرها الناس كما يتذكرون باقي الأساطير والحكايات الممتعة.
ملتقى الأساطير بين بحر الروم وبحر الظلمات
مضيق جبل طارق هو بحر الأساطير بامتياز. الأسطورة الأشهر تقول إن العملاق هرقل، وبعد صراع قوي مع الإله أطلس، قرر أن يفصل القارة الأوروبية عن القارة الإفريقية، فدفع بيديه القويتين القارتين عن بعضهما البعض، وتحولت المنطقة إلى شلال عملاق لسنوات طويلة، حيث كان الإنسان القديم يجلس على حافة الضفتين وهو يتأمل الكميات الهائلة من المياه التي تصب في المضيق من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
هناك أساطير أخرى كثيرة حول المضيق، من بينها أسطورة الإله أطلس الذي غرق تحت مياه المضيق، وأن صخرة جبل طارق جنوب إسبانيا، وصخرة جبل موسى، بين طنجة وسبتة، هما كتفاه الظاهران، بينما جسده يغرق تحت الماء.
هناك أساطير أخرى تتحدث عن جزيرة المعدنوس المعروفة باسم «ليلى»، أو صراع العمالقة على الضفة الجنوبية للمضيق، والذين لا تزال آثار أقدامهم على صخور منطقة كاب سبارطيل بطنجة.
الربط القار بين أوروبا وإفريقيا كان ضمن الأساطير أيضا، وهي أساطير ممزوجة ببعض الحقيقة. المؤرخ الشهير الإدريسي، وهو ابن مدينة سبتة، تحدث في القرن السابع الميلادي عن آثار قنطرة كانت تربط بين أوروبا وإفريقيا عبر بلدة طريفة الإسبانية وطنجة في شمال المغرب. ويقول الإدريسي، بتوافق مع مؤرخين عرب آخرين، إنه في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت هناك قنطرة عملاقة تربط بين القارتين، وهي القنطرة التي لا تزال آثارها إلى الآن موجودة في بلدة طريفة الإسبانية، خصوصا عندما تنحسر المياه، فتبدو آثارها بادية للعيان.
بعد قرن من كلام الإدريسي، سيقول مؤرخ مغربي آخر اسمه عبد الواحد المراكشي نفس الكلام تقريبا، حيث تحدث عن بناء الرومان لقنطرة على المضيق، وهي قنطرة تعرضت بعد ذلك للإتلاف بسبب حركة المياه وغرقت بعد ذلك بالكامل، ويضيف أن آثارها لا تزال إلى اليوم في جزيرة «لاس بالوماس» القريبة من بلدة طريفة.
لكن ليست الأساطير والمصادر التاريخية هي التي تتحدث وحدها عن هذه القنطرة العجائبية لما قبل التاريخ، بل هناك الوقائع التي تؤكد أيضا أن حلم بناء قنطرة بين إفريقيا وأوروبا لم يبدأ مع فكرة الملك الراحل الحسن الثاني، بل كانت موجودة في أوساط القرن التاسع عشر، أي في سنة 1869 بالضبط.
كانت فكرة بناء قنطرة عملاقة على المضيق في القرن التاسع عشر نابعة من رغبة إسبانية جامحة في الوصول إلى إفريقيا بأقرب وأسهل الطرق، خصوصا في ظل صراع أوروبي مرير من أجل الحصول على أكبر قدر من المستعمرات في إفريقيا.
غير أن إنجاز تلك القنطرة في ذلك الوقت لم يكن ممكنا في وقت كانت فيه إسبانيا بلدا فقيرا وبالكاد يستطيع تجهيز جيوشه من أجل غزو مناطق أخرى أكثر فقرا مثل المغرب وبلدان أمريكا اللاتينية. ومنذ ذلك التاريخ دخلت فكرة بناء ربط قار بين القارتين مرحلة سبات عميق، ثم استيقظت لفترة وجيزة سنة 1972، قبل أن يوقظها الحسن الثاني من جديد في ذلك العشاء مع الملك خوان كارلوس. وكثيرون اعتقدوا وقتها أن تلك الفكرة هي من بنات الأفكار الطريفة للحسن الثاني الذي يحلو له اختراع أفكار غريبة لكي يزخرف بها أركان ملكه الذي كان يترنح بين الفينة والأخرى، خصوصا وأن تلك الفكرة جاءت سنوات قليلة بعد أن نجا النظام الملكي في المغرب من هلاك محقق بعد محاولتين انقلابيتين فاشلتين، وبعد محاولات أخرى لم تخرج للعلن، بما فيها محاولات اغتيال الملك نفسه.
اليوم، بعد 30 عاما من لقاء فاس بين ملكي المغرب وإسبانيا، لا تزال هذه الفكرة تعشش في رؤوس المسؤولين المغاربة والإسبان وكأنه وعد مقدس أقسموا على تنفيذه.
الإسبان يقولون إن سنة 1979 كانت مختلفة بالنسبة إلى الملك خوان كارلوس الذي التزم وقتها بالعمل على تنفيذ هذا المشروع، بينما الدستور لا يخول له ذلك، لذلك من حقهم التخلي عنه في أي وقت. أما المغاربة فإنهم يتشبثون بهذه الفكرة رغم أن الحسن الثاني مات وبإمكانهم اعتبار فكرته مجرد نزوة ملكية تطلبتها ظروف معينة ومن حقهم نسيانها. لكن لا المغاربة ولا الإسبان يريدون التخلي عن هذه الفكرة التي تبدو مكلفة وغامضة أكثر من اللازم.
ولن يكون لقرار التخلي عن هذا المشروع، لو حدث، وقع المفاجأة على الكثيرين سواء في المغرب وإسبانيا، وذلك بالنظر إلى أنه كان محط شكوك باستمرار، وما يزيد في تعزيز هذه الشكوك هو أن أشغال الدراسة والبحث استمرت أكثر مما يجب، وهو ما دفع قطاعا عريضا من المغاربة والإسبان إلى اعتبار هذا المشروع خطابا سياسيا أكثر مما هو مشروع اقتصادي بين بلدين تفرقهما المشاكل أكثر مما تجمعهما المشاريع المشتركة.
وتعود فكرة هذا المشروع، الذي أصبح يطلق عليه اسم «المشروع الفرعوني» نظرا لضخامته، إلى سنة 1979، خلال أول زيارة قام بها للمغرب العاهل الإسباني الملك خوان كارلوس الأول، حيث اجتمع مع العاهل المغربي الملك الراحل الحسن الثاني، وتم إطلاق فكرة المشروع خلال حفل عشاء أقيم بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، مدينة فاس. ومنذ ذلك الوقت، دخل الربط القار بين المغرب وإسبانياغياهب النسيان لسنوات طويلة، وكأنه ضفدع سمين دخل كهف السبات الشتوي، ثم خرج منها باحتشام، قبل أن يدخل خلال السنوات الأخيرة غرفة الإنعاش، ليبدو وكأنه مشروع قابل للتحقيق.
ملكان في حاجة إلى شيء ما
جاء إطلاق مشروع الربط القار في ظروف خاصة جدا، وخلال لقاء بين ملكين هما معا كانا في حاجة إلى شيء ما لتدعيم أسس ملكيهما.
ملك إسبانيا، كان بدأ للتو مرحلة حكمه في أجواء عاصفة وبعد خروج من دكتاتورية استمرت أربعة عقود. كان خوان كارلوس الأول يعاني من تذبذب شرعيته لأنه كان حليفا للدكتاتور الراحل الجنرال فرانكو، كما أنه وصل إلى العرش بعد أن انقلب على والده الذي كان يتقدمه في أهلية الوصول إلى هذا المنصب، إضافة إلى الأصوات الكثيرة التي كانت ضده، خصوصا من جانب اليسار الذي كان قويا جدا وقتها، لذلك فإن العاهل الإسباني ربما وجد في هذا المشروع فرصة لكي يظهر بمثابة الملك الواثق من نفسه والطامح إلى إنجازات كبرى. ويقول الكاتب الحافي الإسباني بابلو فيرنانديث سانشيز إنه لو تدخل الملك خوان كارلوس في هذا المشروع في الوقت الراهن لصار ذلك بمثابة مزحة لأنه لا يملك دستوريا مثل هذا الحق، لكن ظروف نهاية السبعينات وبداية الثمانينات كانت مختلفة تماما عن اليوم.
وبالنسبة إلى الملك الراحل الحسن الثاني، فإنه كان يحاول استتباب فترة مختلفة من حكمه بعد تنظيم المسيرة الخضراء التي استعاد بها المغرب أراضيه الجنوبية في الصحراء.
كان الحسن الثاني أيضا يريد الظهور بمظهر ملك مختلف عما كان عليه خلال الستينات والسبعينات. لقد خرج الملك من انقلابات عسكرية نجا منها نظامه بأعجوبة، ونجا من محاولات اغتيال علنية وسرية، ثم أطلق اسم «المغرب الجديد» على بلد تمزقه الخلافات السياسية، لذلك ارتأى أن مشروعا مثل الربط القار بين المغرب وإسبانيا سيكون الضربة المناسبة داخليا وخارجيا، خصوصا وأن المغرب كان على حافة الدخول في حرب مع إسبانيا بسبب الصحراء، فجاءت فكرة الربط القار معها كأنها بلسم لكل الخلافات السابقة.
العودة إلى الواجهة
ومنذ بضعة سنوات فقط، عاد هذا المشروع إلى الأضواء، وتم تقديم الدراسات المتعلقة به، والتي استمرت تقريبا إلى عقد الثمانينات وجزء من عقد التسعينات.
ومنذ إطلاق فكرة المشروع، استمرت التكهنات والاحتمالات من دون توقف، وتراوحت كلها ما بين فكرة إنجاز جسر معلق فوق مضيق جبل طارق على طول 14 كيلومترا، وهي المسافة التي تفصل بين الضفاف الجنوبية لإسبانيا وبين السواحل الشمالية المغربية، كما تم الحديث عن سكة حديدية تحت الماء في نفق يربط بين الضفتين، وهي سكة حديد مزدوجة لا مكان فيها للسيارات أو المشاة، ثم بدأ الحديث عن نفق تحت الأرض الموجودة تحت مياه المضيق، وهي الفكرة التي تبدو الأنسب حاليا لتحقيق هذا المشروع.
وكان وزير الخارجية المغربي، الطيب الفاسي الفهري، ووزير الخارجية الإسباني، ميغيل أنخيل موراتينوس، قدما قبل بضعة أسابيع على الاتحاد الأوروبي، وأثناء ذلك صرح وزير الخارجية الإسباني بأن هذا المشروع يسير في الاتجاه الصحيح، وأن تنفيذه سيتم على الأرجح سنة 2025، أي بعد 18 سنة من الآن.
لكن أهم ما يعترض سبيل هذا النفق البحري، ليس فقط الصعوبات التقنية، أو الإمكانيات المالية الضخمة التي يجب اعتمادها، والتي تتجاوز 11 ألف مليون دولار، بل هناك منافعه الاقتصادية، والتي يبدو أنها مغرية في نظر المسؤولين المغاربة والإسبان.
ولا يثير هذا المشروع التساؤل فقط بين السياسيين والفاعلين الاقتصاديين، بل هو أيضا محط تساؤلات من طرف الناس العاديين في المغرب وإسبانيا، حيث يتحدثون عن جدواه اقتصاديا وبشريا، خصوصا وأن إنجازه سيتسبب في بطالة المئات أو الآلاف من عمال الموانئ والبواخر المغربية والإسبانية، وسيدفع العشرات من شركات الملاحة البحرية التي تشتغل ما بين طنجة وموانئ الجنوب الإسباني، إلى الإفلاس.
ويعبر مضيق جبل طارق كل عام أزيد من 3 ملايين مسافر، وأغلبهم من العمال المغاربة في بلدان أوروبا، والذين يتوجهون إلى المغرب بداية ونهاية كل عام خلال العطلة الصيفية.
كما سيؤدي استعمال النفق البحري لو تم، إلى توقف أغلب حركة الملاحة البحرية وتوقف عشرات البواخر والسفن السريعة، من دون أن يكون هناك بديل حقيقي ومتميز، حيث إن البواخر السريعة التي تعبر المضيق حاليا لا تتجاوز نصف ساعة بين الضفتين، علما بأن استعمال النفق البحري مستقبلا سيتم في نفس المدة تقريبا.
الشجرة الخضراء.. والأشجار اليابسة
يجمع الخبراء المغاربة والإسبان على أن مسألة ربط قار بين المغرب وإسبانيا مرتبطة بالرغبة السياسية أولا، ثم بعائداته الاقتصادية ثانيا.
لكن كثيرين يرون في العبارات الرومانسية حول الربط بين قارتين وإقامة صلة وصل قوية بين جارين مجرد كلمات بلا معنى، أو مجرد شجرة خضراء تخفي غابة من الأشجار اليابسة.
من بين هذه الأشجار اليابسة أن المغرب لا يتوفر حاليا على طريق سيار حقيقي سيربط مستقبلا بين القناة وبين باقي مدن المغرب وباقي المدن الإفريقية، ما دام أن هدف الربط القار ليس المغرب وإسبانيا فقط، بل أوروبا وإفريقيا بشكل عام.
المشكلة الثانية هي أن القناة سيتم بناؤها وفق المعطيات الحالية التي تشير إلى تفوق كبير على إفريقيا في مجال التنمية. لكن في حال تحركت إفريقيا تنمويا، فإن حركة القناة يمكن أن تصاب بشلل أو باختناق بسبب ازدياد حركة التنقل عبرها انطلاقا من القارة الإفريقية، وهذا يتطلب إما التخلي عن النفق، أو إقامة جسر معلق فوق المياه لاستيعاب الحركة الاقتصادية المتزايدة.
المشكلة الثالثة هي أن الحركة الملاحية البحرية العادية تبدو حاليا ومستقبلا الأفضل من حيث الأرباح، والنفق البحري المرتقب لن تكون له عوائد اقتصادية كبيرة، كما أن المبادلات التجارية بين أوروبا وإفريقيا، أو على الأصح الصادرات الأوروبية نحو إفريقيا، تتم بشكل طبيعي حاليا ومن دون حاجة إلى أي مشروع كبير مثل النفق البحري.
المشكلة الرابعة هي جيولوجية وطبيعية بالأساس. وإذا كان المتحمسون لهذا المشروع يتحدثون عن نفق المانش بين فرنسا وإنجلترا كنموذج، فإنهم يغفلون أن النفق يربط بين جزيرة بريطانيا وفرنسا، وليس بين قارتين. ويعرف الجيولوجيون أن القارة الإفريقية دائمة الحركة جيولوجيا، ومع مرور الوقت يمكن أن يتعرض النفق البحري عبر مضيق جبل طارق لأضرار بالغة، وربما للتدمير التام.
ويقول المهندس الإسباني خوسي لويس ماسان، الذي اشتغل لأزيد من 12 سنة في الأبحاث المتعلقة بمشروع الربط القار، إن بناء نفق تحت أراضي مضيق جبل طارق لن يكون صعبا فقط، بل سيكون خطيرا بالنظر إلى البنية الهشة لأعماق المضيق، لكنه لا يقول إنه مستحيل.
هناك أيضا متفائلون بهذا المشروع، مثل المهندس المتقاعد مانويل إيستيراس، الذي يقول إن إنجاز الربط القار سيجعل الدار البيضاء قريبة من إشبيلية بثلاث ساعات فقط، بينما لن يحتاج المنطلق من مدريد إلى الدار البيضاء سوى إلى خمس ساعات فقط عبر القطار السريع المار عبر النفق.
ويعطي إيستيراس أمثلة بالقنوات الضخمة تحت الأرض، مثل تلك الموجودة تحت جبال التبت في الصين، والتي تستوعب مرور قطارات وشاحنات عملاقة يزيد ارتفاعها عن خمسة أمتار، بالإضافة إلى عائداتها الاقتصادية الكبيرة.
غير أنه ومنذ الآن وإلى غاية تحقيق فكرة هذا المشروع بعد 20 أو 30 سنة، فإن التفكير الواقعي هو الذي يركز على طرق تطوير الاتصال بين ضفتي مضيق جبل طارق بالشكل الموجود عليه حاليا. أكيد أن لا أحد سيجمع يديه في انتظار أن يتم إنشاء النفق، وخلال مدة الانتظار هذه، فإن الكثير من الأشياء ستتطور، بما فيها الربط الجوي بين الضفتين. وربما خلال مدة الانتظار سيصبح إنشاء نفق مجرد خرافة أو حكاية من الماضي، وقد يتذكرها الناس كما يتذكرون باقي الأساطير والحكايات الممتعة.
ملتقى الأساطير بين بحر الروم وبحر الظلمات
مضيق جبل طارق هو بحر الأساطير بامتياز. الأسطورة الأشهر تقول إن العملاق هرقل، وبعد صراع قوي مع الإله أطلس، قرر أن يفصل القارة الأوروبية عن القارة الإفريقية، فدفع بيديه القويتين القارتين عن بعضهما البعض، وتحولت المنطقة إلى شلال عملاق لسنوات طويلة، حيث كان الإنسان القديم يجلس على حافة الضفتين وهو يتأمل الكميات الهائلة من المياه التي تصب في المضيق من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
هناك أساطير أخرى كثيرة حول المضيق، من بينها أسطورة الإله أطلس الذي غرق تحت مياه المضيق، وأن صخرة جبل طارق جنوب إسبانيا، وصخرة جبل موسى، بين طنجة وسبتة، هما كتفاه الظاهران، بينما جسده يغرق تحت الماء.
هناك أساطير أخرى تتحدث عن جزيرة المعدنوس المعروفة باسم «ليلى»، أو صراع العمالقة على الضفة الجنوبية للمضيق، والذين لا تزال آثار أقدامهم على صخور منطقة كاب سبارطيل بطنجة.
الربط القار بين أوروبا وإفريقيا كان ضمن الأساطير أيضا، وهي أساطير ممزوجة ببعض الحقيقة. المؤرخ الشهير الإدريسي، وهو ابن مدينة سبتة، تحدث في القرن السابع الميلادي عن آثار قنطرة كانت تربط بين أوروبا وإفريقيا عبر بلدة طريفة الإسبانية وطنجة في شمال المغرب. ويقول الإدريسي، بتوافق مع مؤرخين عرب آخرين، إنه في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت هناك قنطرة عملاقة تربط بين القارتين، وهي القنطرة التي لا تزال آثارها إلى الآن موجودة في بلدة طريفة الإسبانية، خصوصا عندما تنحسر المياه، فتبدو آثارها بادية للعيان.
بعد قرن من كلام الإدريسي، سيقول مؤرخ مغربي آخر اسمه عبد الواحد المراكشي نفس الكلام تقريبا، حيث تحدث عن بناء الرومان لقنطرة على المضيق، وهي قنطرة تعرضت بعد ذلك للإتلاف بسبب حركة المياه وغرقت بعد ذلك بالكامل، ويضيف أن آثارها لا تزال إلى اليوم في جزيرة «لاس بالوماس» القريبة من بلدة طريفة.
لكن ليست الأساطير والمصادر التاريخية هي التي تتحدث وحدها عن هذه القنطرة العجائبية لما قبل التاريخ، بل هناك الوقائع التي تؤكد أيضا أن حلم بناء قنطرة بين إفريقيا وأوروبا لم يبدأ مع فكرة الملك الراحل الحسن الثاني، بل كانت موجودة في أوساط القرن التاسع عشر، أي في سنة 1869 بالضبط.
كانت فكرة بناء قنطرة عملاقة على المضيق في القرن التاسع عشر نابعة من رغبة إسبانية جامحة في الوصول إلى إفريقيا بأقرب وأسهل الطرق، خصوصا في ظل صراع أوروبي مرير من أجل الحصول على أكبر قدر من المستعمرات في إفريقيا.
غير أن إنجاز تلك القنطرة في ذلك الوقت لم يكن ممكنا في وقت كانت فيه إسبانيا بلدا فقيرا وبالكاد يستطيع تجهيز جيوشه من أجل غزو مناطق أخرى أكثر فقرا مثل المغرب وبلدان أمريكا اللاتينية. ومنذ ذلك التاريخ دخلت فكرة بناء ربط قار بين القارتين مرحلة سبات عميق، ثم استيقظت لفترة وجيزة سنة 1972، قبل أن يوقظها الحسن الثاني من جديد في ذلك العشاء مع الملك خوان كارلوس. وكثيرون اعتقدوا وقتها أن تلك الفكرة هي من بنات الأفكار الطريفة للحسن الثاني الذي يحلو له اختراع أفكار غريبة لكي يزخرف بها أركان ملكه الذي كان يترنح بين الفينة والأخرى، خصوصا وأن تلك الفكرة جاءت سنوات قليلة بعد أن نجا النظام الملكي في المغرب من هلاك محقق بعد محاولتين انقلابيتين فاشلتين، وبعد محاولات أخرى لم تخرج للعلن، بما فيها محاولات اغتيال الملك نفسه.
اليوم، بعد 30 عاما من لقاء فاس بين ملكي المغرب وإسبانيا، لا تزال هذه الفكرة تعشش في رؤوس المسؤولين المغاربة والإسبان وكأنه وعد مقدس أقسموا على تنفيذه.
الإسبان يقولون إن سنة 1979 كانت مختلفة بالنسبة إلى الملك خوان كارلوس الذي التزم وقتها بالعمل على تنفيذ هذا المشروع، بينما الدستور لا يخول له ذلك، لذلك من حقهم التخلي عنه في أي وقت. أما المغاربة فإنهم يتشبثون بهذه الفكرة رغم أن الحسن الثاني مات وبإمكانهم اعتبار فكرته مجرد نزوة ملكية تطلبتها ظروف معينة ومن حقهم نسيانها. لكن لا المغاربة ولا الإسبان يريدون التخلي عن هذه الفكرة التي تبدو مكلفة وغامضة أكثر من اللازم.