من حكمة الله البالغة أنه لم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرَّم عليهم؛ ذلك أن الشيء المحرم في شريعة الإسلام بيِّنٌ ضرره، ظاهرةٌ عاقبته الوخيمة على الجسد في الدنيا وعلى المجتمع، قبل عقاب الآخرة. والخمر واحدة من المحرمات في تعاليم الإسلام، بنص الكتاب الكريم (القرآن)، وبدلاة السنة، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة 90 - 91).
ويقول صلى الله عليه وسلم: “كل مسكر حرام” رواه مسلم، وقال: “إن الله إذا حرّم أكل شيء حرم عليهم ثمنه”، رواه أبو داود. كما حرّم رسول الله التداوي بالحرام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم”، وغير ذلك من الأدلة المؤكدة في حُرمة الخمر العقلية والنقلية.
والخمر في اللغة: هي كل مسكر مخامر للعقل، مغط عليه، يقولون: خمر الشيء ستره.
وقد أصبحت الخمر رجساً من العمل الشيطان كما نصت الآية؛ لأضرارها على الجسم والنفس والمجتمع. ومادة التخمير هي تحوّل المادة السكرية إلى مواد كيماوية متعددة، في مقدمتها المادة الكحولية المسماه الفول “الإثيلين”، وسميت بذلك لأنها تغتال العقل، وتسيطر عليه.
والعقل هو ما شرف الله به الإنسان، ورفعه بين الكائنات الحية؛ حيث يميز به النافع من الضار؛ لذا سميت الخمر في الشريعة الإسلامية بأم الخبائث، واعتبرها العلماء من كبائر الذنوب، وجاء عليها الحكم الدنيوي الرادع بالزجر المؤلم، وفي الآخرة بالعقاب المخيف.
وسُمّيت بأم الخبائث لأنها تقود الجسد البشري إلى أنواع عديدة من الجرائم، كان من الممكن تلافيها لو كان العقل سليماً ومستشرداً بهدي الله، والحواس بعيدة عن أثر الخمر ومتجافية عما حرم الله. ولما كان الدماغ أكثر أجهزة الجسم وأسرعها تأثراً بالخمر؛ لأن المادة الكحولية تصل إليه مع الدم بسرعة، فإنه يثبطه عن العمل، فيختل التوازن في الجسم، ويغيب عن التركيز وإدراك الحقائق على وضعها؛ فيحدث من ذلك أضرار منها:
- اصطدام السكران بسيارة، أو السقوط في نهر أو حفرة بسبب عدم التركيز، واضطراب الحركة؛ لذا فإن دول العالم تمنع قيادة السيارة للسكران، وتعاقبه على ذلك محافظة على السلامة لنفسه وللآخرين، ويكثر التدقيق على الطرق العامة وفي الإجازات بأجهزة صغيرة ودقيقة العمل سريعة النتيجة يحملها رجال البوليس معهم، ويجازون من لم يتقيد بالأوامر.
- وبسبب فقدان التوازن الجسماني وضبط النفس تكثر من السكارى الاعتداءات والمشاجرات التي لا مبرر لها، ومن دون سبب؛ لأن من آثار الخمر عدم السيطرة على الأعصاب، أو الخضوع لنداء الحواس، وهذا أول مدخل من مداخل الجريمة.
- يتحول الإنسان إلى عمل حيواني؛ حيث يحرص على ارتكاب الجرائم الجنسية دون تمييز، وقد يغتصب محارمه وبناته القاصرات؛ لأن الجهاز العقلاني المتحكم في التمييز قد فقد السيطرة عليه، وأصبح الموجه لهذا الإنسان الهوى والشيطان، وهذان يقودان إلى كل شر وما هو ضار؛ حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بأن “المؤمن لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن” لانتفاء الإيمان مع الإصرار على الخمر.
وقد أعطي السطران أحكامٌ في الفقه الإسلامي تربطه بالمجنون في تصرفاته؛ فطلاقه غير واقع، وعطاؤه غير نافذ، فكيف يرضى المرء لنفسه اختياراً بهذا المصير؟ علاوة على الأضرار الجسمانية التي تلحق بجسمه من تلف المخ، وتليف الكبد وتسمم الدم؛ ما يسبِّب قتل النفس الذي حرمه الله بنص القرآن.
وتُحدثُ الخمر أضراراً خطيرة للجسم، تقود إلى الوفاة، منها: التهابات في الرئة، وتليف الكبد، والمرض السكري، والغيبوبة، والعرضة للموت السريع بأعراض أخرى، أبانها الأطباء نتيجة للوقائع التي مرت بهم، وكذا مرت برجال الأمن وفقاً للوقائع التي مرت بهم. وجسم بني آدم ملك لله، لا يجوز التعرض له بسوء.
- ومنها إقدام متعاطي الخمر على جريمة القتل، وما أكثر ما نقرأ في الصحف من النماذج التي يقشعر منها البدن، وهذا ما يسميه المختصون الأهْلاسْ المخيفة، كأحلاسِ الجريمة والخيانة والتهديد، التي تدفع الشخص إلى الانتحار. ومعلوم العقاب الشديد لمن يقتل نفسه، أو الجريمة. وعلى سبيل المثال تنشر الصحف يومياً جرائم بشعة، وعلى سبيل المثال نشرت بعض الصحف جريمة قتل مخيفة، تفاصيلها أن زوجاً دخل بيته وهو في حالة سكر بعد منتصف الليل، فأقدم على قتل زوجته وأولاده الأربعة النائمين إلى جنبها؛ لأنه تبادر إلى عقله الذي غيبته الخمر أنها خائنة، وهذا من جنون السكارى الذي لا يُعدّ.
- والأطباء قد عدُّوا أكثر من خمسين مرضاً تصيب الإنسان من آثار الخمور، تتسبب في تلف أجزاء من الجسم كالخلايا والأعصاب وإنقاص قدرات باطنية وخفية في البدن، ومن أبرز ذلك:
- تخلف في القدرة الذهنية في الفهم والاستيعاب نتيجة لأضرار
- اعتلال الأعصاب؛ حيث يحصل في الجسم إضراب حسي وحركي مع شلل مؤقت، وقد يستمر في الوجه واليد والرجل، مع ضعف عقلي وهُزال وآلام في الأطراف. ومع أن الأعمار بيد الله إلا أن السكارى أقصر أعماراً وأكثر أمراضاً.
- ضعف البصر، وقد يؤدي إلى العمى، بتأثير الخمر والمادة الفولية المسكرة على أعصاب العين؛ ما يضعف القدرة على الإبصار والتركيز.. وصدق الله العظيم الذي حرمها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بآيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...} (البقرة219).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “اللهم أنزل لنا في الخمر قولاً شافياً”؛ لأن حكمها جاء تدريجياً فأنزل الله الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة91)، فقال الصحابة: “انتهينا انتهينا يا رب”، وهذا من طاعتهم وإيجابيتهم؛ فأهرقوا كل ما عندهم من دِنانِ الخمر، حتى قيل إن أسواق المدينة امتلأت مما أهريق فيها، وهذا من حرصهم - رضي الله عنهم - للاستجابة والامتثال للطاعة.
وفي الحدود الرادعة: جاءت زواجر وجزاءات لمن يتعاطى الخمر بعدما جاء التحريم من الله سبحانه قطعاً لدابر الضرر.
والله لا يحرم شيئاً إلا لما فيه من ضرر. وزيادة عما مر بنا من أضرار الخمر فإن منها: أمراض الهضم، وهي كثيرة كالتهابات المريء الذي يتحول إلى السرطان وقرحات المعدة وتفشي سرطان المعدة والأمعاء والتهابات الجهاز الهضمي بأجزائه المختلفة وفقدان الشهية، التي ينتج منها الضعف العام.
كما أن تعاطي الخمر له تأثيرات في الكبد من تشمعها والتهابها وتضخمها، والتأثير في جهاز المناعة الذي موطنه الكبد، وهي أمراض متداخلة، انتشرت في البلاد التي توسع تعاطي الخمور فيها وأطلق عنانها؛ حيث أحدثت أضراراً مخيفة وخيالية في الوفيات.
فمن تشمّع الكبد وحده جاء في إحصائية عن بعض الدول أن فرنسا يموت فيها سنويا (225.000 شخص)، وفي ألمانيا يموت فيها سنويا (16.000 سنوياً)، وفي أمريكا ضِعْف هذا العدد، وفي كل عام يصدر عن منظمة الصحة العالمية أرقام دولية كبيرة في كل بلد من دول الغرب والشرق في أعداد المتوفين بالخمور، وهي عِبرة للناس، يرونها في أنفسهم؛ لعلهم يرجعون إلى ربهم معرفة وعملاً.
أما أمراض القلب وتشوُّه الأجنة عند الحوامل، وقلة النسل عند الرجال، والعقم عند النساء والرجال، وغير هذا من أمور كثيرة، فإحصائياتها كثيرة.
وهذه تأتي بأرقامها المخيفة وما تجنيه الخمور على البشرية من أضرار، فتبرز لمن يريدها في النشرات الصحية بدول العالم، فضلاً عن النتائج الإجرامية التي تبرز عند رجال الأمن في كل مكان؛ إذ تفشت نتائج وأضرار الخمور في كل جهة؛ حيث أُطلق العنان لكل من يريد الخمور ويتعاطاها؛ فتفشى هذا الداء الوبيل، وظهرت نتائج الأضرار لدى المتساهلين بهذا الداء الذي حرمه الله - جل وعلا -.
وقد جاءت تعاليم الإسلام بالعلاج الناجح لهذه المشكلة العويصة، وذلك بإسلام النفس لله. وقد زرع دين الفطرة في القلوب المعالجة، وهيأت التعاليم الرادعة الرغبة في الابتعاد عن الخمر وضررها. نسأل الله أن يحمي المجتمعات الإسلامية من الخمور وغيرها مما حرمه الله؛ حتى تسعد تلك المجتمعات بعلاج ناجح ومثمر مستمد من صيدلية الإسلام وما فيها من وصفات خيِّرة ونافعة.
ومن خلاصة القول في الخمر أنها معصية لله ولرسوله، وتُذهب العقل والمال، وتُسبب أمراضاً عديدة، وتقود إلى الجريمة، وتفكك الأسرة، وغير هذا من الآفات، وإثمها أكبر من نفعها.