لم يكن غريب أن تسمع أحد يعتبر الظلام راحة للنفس وسكينة
للروح، فهذا يدل على أنه يرى في الظلام الأشياء هادئة في من حوله؛ أو لعله ينزعج
من الإضاءة القوية –حتى لو كانت من نور الشمس- عندما تجعل الألوان ساطعة بإزعاج
فهو يكتفي بالضوء البسيط الذي يعكسه القمر أو حتى إنعكاس بعض الأشعة من المرايا
والأسطح العاكسة.. فالظلام هو الأساس والنور هو المؤثر الذي يفرض إضاءته لتتلاشى
أمواج الظلام ويتضح كل شئ كان غامض، وبما أن نور الله-عزوجل- هو أعظم وأجل من كل
نور يعكسه أي نجم في الكون مهما كان حجمه؛ فهذا مبرر كافي لضعف العين البشرية عن
رؤية خالقها إلا من وهبه الله-عزوجل- منحة رؤيته عند
دخوله الجنة بمشيئة الخالق
وحده.
يا للعظمة.. هل
تخيل أحد المتعة الغير منتهية عندما يتفضل عليه الله-عزوجل- لكي يراه في الآخرة
ويكون قد وصل إلى أكبر حقيقة في حياة الخلد ورأى الله-جل جلاله- سيكون أقل تقدير
أنه قد ينسى حياته الدنيوية بأكملها بكل البشر الذي رآهم في حياته وبعد مماته؛ بل
إنه لن يبالي بأي متعة يراها في الجنة إلا أن يظل ساجداً أمام عرش الرحمن، هل سأل
أحدنا نفسه إن كان يستحق أن يرى الله-عزوجل- في الآخرة؟ هل أعيننا طاهرة بما يكفي
لكي تستحق أن تستوعب رؤية الرحمن؟ هل كان لنا الطموح والتخطيط في حياتنا حتى يكون
ما نفعله حقاً سيكون سبب في تحقيق هذا الهدف الجليل، أم سنكون –معاذ الله- من أناس
لن ينظر الله-عزوجل- إليهم وقت حسابهم؟ إننا لانستحق أن نؤدي بأنفسنا إلى هذا
المصير و يستحيل لنا أن نترك سيئات أعمالنا تتزايد فوق أكتافنا لي تصل
بنا إلى
ظلام جهنم.
كل شئ خلقه
الله-عزوجل- في هذا الكون مفيد مهما كان، فالشر مفيد لإبتعادنا عنه وإقترابنا من
الخير، والشيطان مفيد لمحاربتنا له وإمتثالنا لطاعة الله-عزوجل- وإدراكنا الحكمة
من خلق الشيطان وتركه بيننا لنختبر تقانا، والأمراض مفيدة لكي نعلم ضعف إنسانيتنا
ونقدر معنى الصحة، حتى الكوارث والمصائب مفيدة لإنها تنقلنا من مرحلة إلى أخرى
وتظهر لنا حقيقة أنفسنا وتجعلنا نقيم معادن الناس.. كذلك هناك ظلمة مفيدة يضعها
الله-عزوجل- في حياتنا سواء خارجياً أم داخلياً لأسباب عديدة، فالظلمة الخارجية
تكون واقعية وهي تتمثل في أشكال عدة مثل: ظلام الليل الذي نرتاح فيه من سعي وإرهاق
النهار ونتهجد فيه إلى الله-عزوجل- وننام فيه لكي نستعد لليوم المقبل، أو هناك من
يجبر في العمل فيه مثل الأطباء الذين يتم إستدعائهم في الحالات الطارئة، أو هناك
من يذاكر أو يقرأ أو يتأمل مستمتعاً بهدوءه وبرودة جوه، وهناك أيضاً من يرى فيه
ملاذ إلى محرماته التي يخبئها عن أعين الناس، وكذلك يوجد من يستغل الظلمة في
إختلاطه بأصحاب الليل والذين يسولون له كل ما يكون ممنوع في النهار، وهناك من
يتعمد السهر في الظلمة التي ترغمه على النوم طوال النهار لكي يمر اليوم دون أن
يشعر بطول النهار الذي يرغمه على النشاط والعمل.
الحقيقة أن كل
كائن حي يرتاح عندما ينام في الظلام حتى وإن كان هناك أناس يشعلون مصابيح أثناء
نومهم فهم يوهمون نفسهم بالضوء لكي يهربوا من خوفهم من الظلام، ولكن عندما يتغلبهم
النوم يغمضوا أعينهم رغماً عن إرادتهم ولن يشعروا بالضوء إلا عندما يستيقذون من
النوم؛ فهم لايخشون من نومهم في الظلام ولكنهم يخشون أن يفتحوا أعينهم ويدركوا
عتمة الظلام فينتابهم الخوف.. ولكن النوم اللانهائي في القبر يستلزمه الظلام
فالميت يحق له أن ينعزل عن العالم الخارجي، فليس معقول أن يعول هموم الدنيا في
حياته وأيضاً بعد مماته؛ فحقاً الموت هو راحة أبدية وليس عقاب كما يظن بعض
الأغبياء، وبالنسبة للرؤى والأحلام أو حتى الكوابيس فهي تولد في الظلام حتى وإن
رأى شخص حلم أو رؤية في اليقظة فإنه يجب أن يسرح بعقله الباطن بعيداً عن الواقع
لكي ينفصل بتركيزه عن كل المؤثرات الخارجية، وهناك أيضاً الظلام داخل أجساد كل
الكائنات الحية والذي يحفظ درجة حرارة أجهزة وأعضاء أجسامنا؛ فهل لنا أن نتخيل إن
كان يوجد مصدر إضاءة داخل جسمنا! ستتمدد أعضاءنا وترتفع حرارتنا وننهار بأسرع
مايمكن؛ فلا يوجد مصباح أياً كان نوعه يمكن أن يعمل إلى الأبد دون أن يفسد فما بال
الكائنات الحية.
الظلمة
الداخلية هي الشبح المرعب وراء كل الأمراض النفسية والتناقضات والجرائم؛ التي تحدث
من فعل كل إنسان يخبئ حقيقة ملوثة عن الناس ويريهم مايجعله محفوظ السمعة أمامهم.. ظناً
منه أنه يستطيع خداع كل من حوله بأي قناع أخلاقي يختبئ وراءه، ويخضع لشيطانه وهو
بعيد عن أعين الناس لكي يتمتع بكل ما يحط من إنسانيته ويجعله مغمور بالمحرمات؛
ويجد الرعب دائماً من نقاط الضعف التي تجعله فريسة لأعداءه في أي ريح عاصفة تطيح
بكل أقنعته، فلا يوجد إنسان مهما كان بارع النفاق يستطيع أن يحكم خداعه ويبرع في
التمثيل دون أي هفوات؛ وللأسف تتلخص حياته في إدعاء أخلاق صناعية تزين صورته ليكتسب رضا الناس وإرهاق نفسه بذنوب تدنس نزاهته كلما إستسلم لظلمة الشيطان، وأين الله-عزوجل-
من كل ذلك؟ فهو غير مدرك أن الله-جل جلاله- يرعاه ويحفظه في وقت معصيته ووقت طاعته
ويترك له حرية الإختيار لكي يفكر بعقله ويشعر بقلبه في كل فعل يقدم عليه، وما
سلطان للشيطان عليه إلا بوساوسه التي يمكن أن يتجاهلها أو بآراء الناس التي جعلته
يلتفت إليهم ويهتم بهم أكثر من إلتفاته لربه وإهتمامه برضاه، فيصبح في حالة ضياع
وإنعدام معنى وهذا أقرب طريق لخسارة الدنيا
والآخرة.
العقل يتخلص من
ظلمته عندما يتعلم فيستنير ويكون أول طريق الإنارة هو إعتراف الفرد بجهله
وإستعداده لتلقي العلم، وعند درجة معينة سيصل لمرحلة التعطش الغير منتهي للمعرفة؛
فيكون متعطش للقراءة والإطلاع المستمر لكي يشبع رغبته في الثقافة.. وسيجد الإعتراف
بأنه لايعرف أي شئ لا يمس كبرياءه بأي عيب لأنه لا يبالي بنظرات الجهلاء إليه،
الشئ الذي يستلزم صيانته بإستمرار هو القلب لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد
كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، فيجب تنقيته من الضغينة والرياء والحقد والطمع وكل
آفة يمكن أن تلوث نقاءه؛ فطيب القلب هو العامل الأساسي في التواصل الروحاني بين
العبد وربه وإعترافه بذنوبه وتوبته منها.. وكذلك هو المفتاح السري للوصول إلى قلب
أي إنسان لكي يتبادل الثقة مع طيبة القلب التي تشع أمامه، فما أجمل الظلمة في
عقولنا وقلوبنا إن كانت ستجعلنا نبحث متلهفين عن النور بالعلم والإيمان، فلولا
وجود عكس النور
لما كان للنور معنى.
لما كان للنور معنى.