ما هي حقيقة الإنسان؟ كيف جاء إلى هذا العالم وما هو مصيره؟ هل هو حر في تقرير مصيره، أم أن قدره قد تحدد وانتهى الأمر؟؟ هذه الأسئلة وأشباهها قد شغلت ذهن الإنسان منذ فجر التاريخ، وربما قد لقى إجابات لبعضها أو لكلها في الدين أو الفلسفة أو الأساطير،
لكنها لا تزال تشغل عقله ووجدانه ويحاول أن يجيب عنها في ظل الانفجار المعرفي الذي تتعاجل فيه معدلات تراكم المعرفة بصورة يعجز معها الإنسان في متابعة هذا التراكم.
أحد أهم الأشكال الفكرية الحية التي يستخدمها الإنسان للإجابة عن هذه الأسئلة اليوم هو أدب الخيال العلمي القوي Hard Science Fiction، وهو أحد أنواع أدب الخيال العلمي الذي يستند بقوة على الحقائق العلمية وتفاصيلها. ويعتبر العالم وكاتب الخيال العلمي الإنجليزي سيرآرثر سي كلارك Sir Arthur C. Clarke أحد أعمدة هذا النوع الأدبي إلى جانب الأمريكيين آيزاك عظيموف Isaac Asimov وروبرت هاينلاين Robert A. Heinlein. وقد جمع الباحثين والنقاد هؤلاء الثلاثة في مجموعة أطلقوا عليها اسم "الثلاثة الكبار Big Three" اعترافاً بمساهمتهم وفضلهم في صياغة هذا الشكل الأدبي.
شُغلت أعمال كلارك الأدبية بالبحث عن حقيقة الإنسان وسر وجوده ومصيره وعلاقته بالعالم المحيط، وقدم كلارك رؤى مختلفة لمستقبل الإنسان بعضها أصاب وبعضها الآخر طاش عن مرماه. لكنه بأية حال يجب أن يحتفي به وبأعماله لأهميتها وعمقها الفكري.
كلارك رجل علم
مسافة طويلة قطعها كلارك في الحياة، مسافة شاسعة في الزمان وفي المكان ما بين مولده في سومرست في انجلترا عام 1917 ووفاته في سيرلانكا عام 2008. أولع منذ طفولته بعمل الفلك وروايات الخيال العملي الأمريكية. حصل على الثانوية العامة والتحق بوظيفة كاتب حسابات بوزارة التعليم البريطانية، قبل أن ينضم للقوات الجوية في العام 1941 ليعمل كعامل تشغيل رادار ويرتقي في سلم الجيش ليتم تسريحه بعد الحرب في عام 1945 بعدما حاز رتبة ملازم وبلغ درجة كبير معلمين بمدرسة الرادار التابعة للقوات الجوية البريطانية. وفي ذلك الوقت بدأ دراسته في كلية لندن حيث تخصص بالرياضيات والفيزياء. في هذه الفترة قدم أهم مساهماته العلمية حيث طرح نظريته حول الاتصالات بواسطة الأقمار الصناعية الثابتة وهو ما دفع الجمعية الفلكية الدولية أن تطلق أسمه على المدار الذي تحتله هذه الفئة من الأقمار الصناعية.
وبالرغم من أنه بدأ ينشر أعماله القصصية والروائية منذ نهاية الثلاثينات، إلا أنه ظل يعمل في مجال البحث العلمي، وترأس جمعية استكشاف الكواكب البريطانية مرتين في الأعوام 1946-1947 و 1951-1953 قبل أن يقرر أن يعتزل البحث العلمي ويتفرغ للكتابة.
كلارك رجل الخيال العلمي
بدأ كلارك نشر قصصه بصورة منتظمة منذ العام 1937 في المجلات الخاصة بالكتاب الهواة، لكن النقلة الحقيقية في مسيرته كأديب خيال عملي كانت عندما بدأ النشر ككاتب محترف في مجلة "الخيال العلمي المذهل Astounding Science Fiction" الأمريكية ومجلة "Dan Dare" البريطانية في العام 1946.
في العام 1951 قرر كلارك التفرغ للكتابة، ثم قرر في العام 1956 الانتقال والإقامة بصورة دائمة في سيرلانكا التي عاش فيها إلى آخر عمره وعشقها ودفن فيها. وفي سيريلانكا توجهت قريحة كلارك وأنتج معظم أعماله الرئيسية. وحتى يتمكن من تأمين مصدر دخل ثابت، لجأ إلى هوايته المحببة الغوص، فأفتتح مركزاً لتعليم الغوص في سيريلانكا يقوم بنفسه بإدارته.
وفي العام 1962 أصيب بحالة مرضية شخصها الأطباء على أنها شلل جزئي، وقد منعته هذه الحالة من ممارسة رياضة الغوص، ومن ثم أغرق نفسه في الكتابة لينتج أهم أعماله وعلى رأسها سلسلة "الأوديسة الفضائية Space Odyssey" وسلسلة "راما Rama" بالإضافة إلى تقديمه العديد من البرامج في الثمانينات في تلفاز هيئة الإذاعة البريطانية التي كانت تدور حول موضوعات خيالية حيث يقوم على إعداد حلقات البرامج وتقديمها على الشاشة. وقد بلغ كلارك أوجه في العام 1988 حيث توجته جمعية كتاب الخيال العلمي الأمريكيين "معلم أكبر Grand Master" وهي ارفع رتبة تمنحها هذه الجمعية، لكنه وفي نفس العام أزداد مرضه وألزمه الطبيب الكرسي المتحرك.
كلارك ظاهرة مفكر
كل فكر يتشكل في عقل المفكر هو نتاج تصارع مؤثرات مختلفة تحركه أهداف مختلفة. وليس هناك أدل على هذه الحقيقة مثل آرثر كلارك. فالهدف الذي يسعى إليه كلارك هو معرفة حقيقة الإنسان وعلاقته بالكون. وككل أبناء زمانه من البريطانيين سعى للبحث عن أجوبة في الدين، لكنه أصطدم بالكثير من الترهات والخزعبلات التي تروجها الكنسية، وبدلاً من الانقلاب على المؤسسة الكنسية واللجوء إلى الإيمان الغنوصي كما فعل أستاذه ومعلمه هـ. ج. ويلز H. G. Willes، فأنقلب على الدين كلية.
لكن موقف كلارك من الدين لم يكن إلحادياً كما فهم البعض من كلام كلارك وتصريحاته كما لم يكن لا آدرياً، بل فضل اللجوء إلى الإطار الأخلاقي للديانات الشرقية، ولهذا السبب نجده يصرح في إحدى مقابلته الصحفية بأنه بوذي. وقد أثر هذا المنحى في كتابته بصورة قوية، فتجد أفكاره في كتابته هي صدى لمؤثرات شرقية، فيقدم فكرة الذكاء الكوني كرجع لعقيدة وحدة الوجود الهندية كما في روايته "نهاية الطفولة The Childhood’s End" وملحمته أوديسا الفضاء، بينما نجده يتنبأ في روايته موعد مع راما بأن العلماء سوف يبدءون باستخدام الأسماء الأعلام الميثولوجية الهندية للدلالة على الأجسام السماوية بحلول القرن الثالث والعشرين. و نجد أثر الثقافة المحلية في سيريلانكا واضحة في أعماله مثل روايته "ينابيع الجنة The Fountains of the Paradise" والتي استوحى بعض شخوصها من شخوص معروفة في الثقافات الهندية والسيلانية مثل الشاعر السانسكريتي كاليداسا وجعل مسرح أحداثها جزيرة في المحيط الهندي تكاد تنطبق معالمها الطبيعية والحضارية مع سيريلانكا.
كان الخيال العلمي بمثابة طرح كلارك للإجابات التي يعتقدها حول أصل الإنسان ومصيره، ولأنه أراد عن وعي أن يكون طرحه مؤسس على حقائق علمية صلبة، فإنه كان يجنح إلى شحن روايته بتفاصيل علمية دقيقة مستقاة من أحدث الأبحاث التي تتوفر إليه. ولذلك كانت كافة أعماله مصنفة كأدب خيال علمي قوي، وكان وعيه بهذا الشكل الذي أختاره ظاهراً في كتابته ولقاءاته الصحفية ولعل الشاهد الأمثل على هذا هو ما كتبه في تقديمه لروايته "رمال المريخ The sands of Mars" يقول: "هذه الرواية واحدة من روايات الخيال العلمي الحقيقي التي تتناول النظرة الحالمة التي قدمها بيرسيفال لوليل Percival Lowell وإدجار رايز بروز Edgar Rice Burroughs وسي إي لويس C. S. Lewis وراي برادبروي Ray Bradbury هؤلاء السادة الأربعة الذين أكن لهم كل الأحترام". فهو يقدم رواية خيال علمي حقيقي وليست مغامرات كاوبوي في الفضاء من الطراز الشائع آنذاك في الولايات المتحدة وغرب أوروبا.
ولعل سبب اختياري للاقتباس السابق هو أنه يمكن أن يدعم نظرية وعي كلارك بما يقدمه من خيال علمي قوي كما يدعم أيضاً الحقيقية التي تقول أن كلارك كان على علاقة وثيقة بأغلب كتاب الخيال العلمي المرموقين آنذاك. فمثلاً سي إس لويس - الكاتب البريطاني الذي يعرفه العرب من خلال ملحمته "حكايات نارنيا The Chronicles of Narnia" التي قدمتت بعضها أفلام ديزني – كانت تربطه صداقة وطيدة مع كلارك، وكانا يجتمعان بصورة منتظمة في الأعوام 1940-1950 في إحدى حانات أوكسفورد لمناقشة قضايا التقدم العلمي، وقد صرح كلارك غير مرة أنه يعتبر ملحمة الخيال العلمي التي كتبها لويس المسماة بـ "ثلاثية رانسوم" هي من أهم أعمال الخيال العلمي على الإطلاق.
وقد بدأ علاقته مع روبرت هاينلاين عندما بدأ هذا الأخير يراسله بعد عقب نشر كتاب كلارك "استكشاف الفضاء" عام 1951، فقد جمع بينهما اهتمامهما باستكشاف الفضاء. وقد التقيا بعد ذلك عدة مرات، وظلت تربط بينهما الصداقة حتى العام 1984 عندما دارت بينهما مشاجرة بسبب معارضة كلارك لسياسات عسكرة الفضاء لحكومة ريجان وهو الأمر الذي رفضه هاينلاين فكانت القطيعة بينهما. وظلا لا يتبادلان حديثاً حتى توفي هاينلاين عام 1988.
أما علاقة كلارك بعظيموف فقد بدأت في العام 1973 حيث التقيا في نيويورك، وقد أبرما في بينهما اتفاق شفهي بأنه عندما يسأل أي منهما من هو أفضل كاتب خيال علمي؟ يقول كلارك أما إذا سئل أيهم من هو أفضل كاتب علمي؟ فسوف يقول عظيموف. وقد عرف هذا الاتفاق الشفهي باسم معاهدة كلارك-عظيموف، وقد أشار إليها كلارك في بعض كتابته. وقد دامت علاقتهما طيبة حتى وفاة عظيموف في العام 1992.
أوديسة الفضاء
في العام 1964 التقى كلارك بالمخرج الأمريكي ستانلي كوبريك في نيويورك، حيث عرض الأخير عليه مشروع فيلم عن قصة كلارك القصيرة الحارس The Sentinel – والتي سبق أن نشرها كلارك عام 1948 ضمن مسابقة لهيئة الإذاعة البريطانية. كان من المفروض أن يكتب كوبريك سيناريو الفيلم لكن بعد عدة مقابلات مع كوبريك اقتنعا بضرورة كتابة رواية تجمع تصوراتهم وتخيلاتهم وتكون هي الأساس الذي يكتب عنه الفيلم. وبسبب صعوبات الوقت، انسحب كوبريك من كتابة الرواية، بينما استمر كلارك في كتابتها محاولاً إنهاءها في نفس الوقت المقرر طرح الفيلم فيه عام 1966، لكن صعوبات الإنتاج أخرت الفيلم إلى عام 1968 كما تأخرت الرواية نفسها للعام 1969. وقد حمل كلاً من الفيلم والرواية نفس الاسم وهو "أوديسة الفضاء:2001". ورغماً من العلاقة المشتركة بين الفيلم والرواية إلا أن الرواية تختلف في كثير عن الفيلم الذي بدا غامضاً وغير مفهوم في أجزاءه الأخيرة، حيث يقوم السرد في الرواية بتوضيح هذه البقع الغامضة من النص، لم يعتمد كوبريك السرد أبداً في الفيلم حيث أراده بمثابة عمل بصري في المقام الأول لذلك جاء الفيلم بالرغم من إبهاره وبهرجته إلى أنه غامض، مما يجعلني أعتقد في قراره نفسي أن العلاقة بين الفيلم والرواية علاقة بين قريبين بعيدين يجمعهما جد واحد بعيد.
اتبع كلارك "أوديسا الفضاء: 2001" بثلاثة روايات أخرى، بحيث مثلت الروايات الأربعة ما عرف باسم "ملحمة أوديسة الفضاء". فقدم كلارك "الأوديسة الثانية:2010" للمطابع عام 1982 ثم الجزء الثالث عام 1987 بعنوان "الأوديسة الثالثة: 2061" أما الجزء الأخير للملحمة فقد صدر عام 1997 بعنوان " الأوديسة النهائية: 3001".
القيمة النقدية لأوديسة كلارك تنبع من أن هذا العمل كافي وحده لفهم فكر كلارك الذي يصيغه في إطار من الخيال العلمي. فالأحداث تبدأ بظهور حجر ضخم يطلقون عليه اسم المونوليث Monolith في مستعمرة للقرود فيما قبل التاريخ يؤدي إلى تطورهم وهو ما يظهر في اكتشافهم للأدوات البسيطة التي سرعان ما تنقلب أدوات للقتل!. ثم ننتقل إلى المستقبل وتحديداً العام 1999 حيث يتم اكتشاف مونوليث مشابهة على سطح القمر، تبث إشارات إلى أحد أقمار زحل المسمى لابيتوس، فيرسل البشر مركبة مأهولة ويديرها الحاسوب "هال Hal" مصطنع الذكاء، إلا أن الحاسوب يصاب بالجنون ويقتل طاقم المركبة عدا أحدهم – بومان - الذي ينجح في إطفاء الحاسوب، لكن الحاسوب يكون قد خرب المركبة، وبذا يكون على هذا بومان أن يقود مركبته المسماة ديسكوفري -1 في رحلة بلا عودة لأستكشاف ما الذي يحدث على سطح لابيتوس، وهناك يرتقي بومان يرتقي بفضل المونولويث الموجود على سطح لابيتوس إلى كائن من الطاقة الخالصة يستطيع أن يتحرك بين أركان الكون كيفما شاء.
بعد مرور نحو عشرة أعوام تخرج بعثة جديدة مشتركة بين الأمريكيين والروس لتستكشف ما الذي أصاب بعثة ديسكوفري-1 وذلك عن طريق إعادة تشغيل الحاسوب هال. لكن هذه البعثة ينذرها بومان الذي تحول إلى طيف بضرورة مغادرة منطقة زحل حيث أن كائنات فضائية أرقى – صاحبة المنوليث – قررت تدميره حتى توفر ظروف التطور لكائنات بدائية تعيش على سطح قمر زحل المسمى يوربا Europa، فتفر البعثة بمساعدة بومان والحاسوب هال الذي يرتقي بدوره إلى كائن أرقى من الطاقة مثل بومان. تفر البعثة وتشهد انفجار زحل وتحوله إلى شمس جديدة بينما تتردد في مسامعهم عبارة التهديد التي يبثها الحاسوب هال "كل هذه العوالم لكم عدا يوربا فهو لي".
وفي الأعوام التالية يشهد البشر ارتقاء مخلوقات القمر يوربا، لكنهم يفشلون في الهبوط على سطح يوربا، حتى يحل العام 3001 لنلتقي وجها لوجه مع الجنس الفضائي الذي صنع المونوليث. والذين تطوروا خلال ملايين السنين من مجرد ديدان تعيش في الوحل إلى كائنات ذكية ترتاد الفضاء، بحثاً عن الأنواع التي لديها استعداد للارتقاء ومن ثم تقوم بتعجيل ترقيتها – والبشر من هذه الأنواع التي قامت بترقيتها – باستخدام المونوليث وتقوم بالتجارب على هذه الأنواع بهدف الارتقاء بالذكاء، ثم يرحلون تاركين خلفهم المونوليث. وقد بلغ تطور هؤلاء الفضائيين أن أصبحوا أجسام غير مادية متحدة في الكون نفسه. وعند عودتهم للأرض يلقون المونوليث وقد أصبح قادر على الاستقلال والتصرف بعيداً عن برنامجه الأصلي!. في نفس الوقت نجد أن البشر امتدوا لاستعمار أقمار زحل السابقة جانميد وكاليستو وأنهم يخططون للنزول على يوربا، ومن ثم يقررون تدمير الجنس البشري، لكن البشر ينجحون في التخلص من سيطرة الفضائيين عليهم والهبوط على يوربا لبدأ إقامة ودية مع الحضارة الناشئة. ويراقب الفضائيين نجاح البشر ويقرروا منحهم فرصة ثانية حتى تحين النهاية.
الأفكار التي تحتويها الرواية وتدور بها كأنها إعصار قاصف تدور كلها في فلك واحد هو أصل الإنسان وعلاقته بخالقه، ومصير البشر هل هو إلى الارتقاء أم الفناء. فلقد أعتبر كلارك أن لحظة ميلاد الإنسان هي لحظة ارتقاء عقله وليست لحظة ظهور أول أفراد النوع، كما أن مصيره هو الاندماج في الكون والارتقاء إلى الدرجة التي تمكنه من التحكم في مصيره بنفسه، وهذه كلها صدى لمعتقدات كلارك التي طورها عن الفلسفات والأديان الشرقية.
وفاة آخر الكبار
كانت سنوات كلارك الأخيرة سنوات حافلة، فوجد التكريم من أكثر من جهة، فمنحته الحكومة البريطانية وسام الإمبراطورية من مرتبة قائد عام 1998 وهو ما يجعله سير أي فارس، كما منحته الحكومة السيرلانكية عام 2005 أرقى أوسمة البلاد. وأمتد به العمر ليرى العام 1999 دون أن يكتشف البشر أول مونوليث على سطح القمر ولا السفينة ديسكوفري تنطلق في رحلتها إلى زحل في العام 2001، لكنه شهد كارثة التسونامي الذي ضرب سيريلانكا، وتسبب في تدمير مدرسة الغوص التي كان يديرها، لكن منزله نجى من الكارثة.
وفي العام الأخير من حياته راح يعاني من انتشار الشلل في جسمه، حتى انتهى به الحال للعجز عن التنفس وهو ما أدى إلى وفاته. وفي صبيحة التاسع عشر من مارس عام 2009 أعلن طبيب سيريلانكي وفاة السير أرثر سي كلارك، آخر عمالقة الخيال العلمي.
د.وسام الدين محمد
لكنها لا تزال تشغل عقله ووجدانه ويحاول أن يجيب عنها في ظل الانفجار المعرفي الذي تتعاجل فيه معدلات تراكم المعرفة بصورة يعجز معها الإنسان في متابعة هذا التراكم.
أحد أهم الأشكال الفكرية الحية التي يستخدمها الإنسان للإجابة عن هذه الأسئلة اليوم هو أدب الخيال العلمي القوي Hard Science Fiction، وهو أحد أنواع أدب الخيال العلمي الذي يستند بقوة على الحقائق العلمية وتفاصيلها. ويعتبر العالم وكاتب الخيال العلمي الإنجليزي سيرآرثر سي كلارك Sir Arthur C. Clarke أحد أعمدة هذا النوع الأدبي إلى جانب الأمريكيين آيزاك عظيموف Isaac Asimov وروبرت هاينلاين Robert A. Heinlein. وقد جمع الباحثين والنقاد هؤلاء الثلاثة في مجموعة أطلقوا عليها اسم "الثلاثة الكبار Big Three" اعترافاً بمساهمتهم وفضلهم في صياغة هذا الشكل الأدبي.
شُغلت أعمال كلارك الأدبية بالبحث عن حقيقة الإنسان وسر وجوده ومصيره وعلاقته بالعالم المحيط، وقدم كلارك رؤى مختلفة لمستقبل الإنسان بعضها أصاب وبعضها الآخر طاش عن مرماه. لكنه بأية حال يجب أن يحتفي به وبأعماله لأهميتها وعمقها الفكري.
أحد أهم الأشكال الفكرية الحية التي يستخدمها الإنسان للإجابة عن هذه الأسئلة اليوم هو أدب الخيال العلمي القوي Hard Science Fiction، وهو أحد أنواع أدب الخيال العلمي الذي يستند بقوة على الحقائق العلمية وتفاصيلها. ويعتبر العالم وكاتب الخيال العلمي الإنجليزي سيرآرثر سي كلارك Sir Arthur C. Clarke أحد أعمدة هذا النوع الأدبي إلى جانب الأمريكيين آيزاك عظيموف Isaac Asimov وروبرت هاينلاين Robert A. Heinlein. وقد جمع الباحثين والنقاد هؤلاء الثلاثة في مجموعة أطلقوا عليها اسم "الثلاثة الكبار Big Three" اعترافاً بمساهمتهم وفضلهم في صياغة هذا الشكل الأدبي.
شُغلت أعمال كلارك الأدبية بالبحث عن حقيقة الإنسان وسر وجوده ومصيره وعلاقته بالعالم المحيط، وقدم كلارك رؤى مختلفة لمستقبل الإنسان بعضها أصاب وبعضها الآخر طاش عن مرماه. لكنه بأية حال يجب أن يحتفي به وبأعماله لأهميتها وعمقها الفكري.
كلارك رجل علم
مسافة طويلة قطعها كلارك في الحياة، مسافة شاسعة في الزمان وفي المكان ما بين مولده في سومرست في انجلترا عام 1917 ووفاته في سيرلانكا عام 2008. أولع منذ طفولته بعمل الفلك وروايات الخيال العملي الأمريكية. حصل على الثانوية العامة والتحق بوظيفة كاتب حسابات بوزارة التعليم البريطانية، قبل أن ينضم للقوات الجوية في العام 1941 ليعمل كعامل تشغيل رادار ويرتقي في سلم الجيش ليتم تسريحه بعد الحرب في عام 1945 بعدما حاز رتبة ملازم وبلغ درجة كبير معلمين بمدرسة الرادار التابعة للقوات الجوية البريطانية. وفي ذلك الوقت بدأ دراسته في كلية لندن حيث تخصص بالرياضيات والفيزياء. في هذه الفترة قدم أهم مساهماته العلمية حيث طرح نظريته حول الاتصالات بواسطة الأقمار الصناعية الثابتة وهو ما دفع الجمعية الفلكية الدولية أن تطلق أسمه على المدار الذي تحتله هذه الفئة من الأقمار الصناعية.
وبالرغم من أنه بدأ ينشر أعماله القصصية والروائية منذ نهاية الثلاثينات، إلا أنه ظل يعمل في مجال البحث العلمي، وترأس جمعية استكشاف الكواكب البريطانية مرتين في الأعوام 1946-1947 و 1951-1953 قبل أن يقرر أن يعتزل البحث العلمي ويتفرغ للكتابة.
وبالرغم من أنه بدأ ينشر أعماله القصصية والروائية منذ نهاية الثلاثينات، إلا أنه ظل يعمل في مجال البحث العلمي، وترأس جمعية استكشاف الكواكب البريطانية مرتين في الأعوام 1946-1947 و 1951-1953 قبل أن يقرر أن يعتزل البحث العلمي ويتفرغ للكتابة.
كلارك رجل الخيال العلمي
بدأ كلارك نشر قصصه بصورة منتظمة منذ العام 1937 في المجلات الخاصة بالكتاب الهواة، لكن النقلة الحقيقية في مسيرته كأديب خيال عملي كانت عندما بدأ النشر ككاتب محترف في مجلة "الخيال العلمي المذهل Astounding Science Fiction" الأمريكية ومجلة "Dan Dare" البريطانية في العام 1946.
في العام 1951 قرر كلارك التفرغ للكتابة، ثم قرر في العام 1956 الانتقال والإقامة بصورة دائمة في سيرلانكا التي عاش فيها إلى آخر عمره وعشقها ودفن فيها. وفي سيريلانكا توجهت قريحة كلارك وأنتج معظم أعماله الرئيسية. وحتى يتمكن من تأمين مصدر دخل ثابت، لجأ إلى هوايته المحببة الغوص، فأفتتح مركزاً لتعليم الغوص في سيريلانكا يقوم بنفسه بإدارته.
وفي العام 1962 أصيب بحالة مرضية شخصها الأطباء على أنها شلل جزئي، وقد منعته هذه الحالة من ممارسة رياضة الغوص، ومن ثم أغرق نفسه في الكتابة لينتج أهم أعماله وعلى رأسها سلسلة "الأوديسة الفضائية Space Odyssey" وسلسلة "راما Rama" بالإضافة إلى تقديمه العديد من البرامج في الثمانينات في تلفاز هيئة الإذاعة البريطانية التي كانت تدور حول موضوعات خيالية حيث يقوم على إعداد حلقات البرامج وتقديمها على الشاشة. وقد بلغ كلارك أوجه في العام 1988 حيث توجته جمعية كتاب الخيال العلمي الأمريكيين "معلم أكبر Grand Master" وهي ارفع رتبة تمنحها هذه الجمعية، لكنه وفي نفس العام أزداد مرضه وألزمه الطبيب الكرسي المتحرك.
في العام 1951 قرر كلارك التفرغ للكتابة، ثم قرر في العام 1956 الانتقال والإقامة بصورة دائمة في سيرلانكا التي عاش فيها إلى آخر عمره وعشقها ودفن فيها. وفي سيريلانكا توجهت قريحة كلارك وأنتج معظم أعماله الرئيسية. وحتى يتمكن من تأمين مصدر دخل ثابت، لجأ إلى هوايته المحببة الغوص، فأفتتح مركزاً لتعليم الغوص في سيريلانكا يقوم بنفسه بإدارته.
وفي العام 1962 أصيب بحالة مرضية شخصها الأطباء على أنها شلل جزئي، وقد منعته هذه الحالة من ممارسة رياضة الغوص، ومن ثم أغرق نفسه في الكتابة لينتج أهم أعماله وعلى رأسها سلسلة "الأوديسة الفضائية Space Odyssey" وسلسلة "راما Rama" بالإضافة إلى تقديمه العديد من البرامج في الثمانينات في تلفاز هيئة الإذاعة البريطانية التي كانت تدور حول موضوعات خيالية حيث يقوم على إعداد حلقات البرامج وتقديمها على الشاشة. وقد بلغ كلارك أوجه في العام 1988 حيث توجته جمعية كتاب الخيال العلمي الأمريكيين "معلم أكبر Grand Master" وهي ارفع رتبة تمنحها هذه الجمعية، لكنه وفي نفس العام أزداد مرضه وألزمه الطبيب الكرسي المتحرك.
كلارك ظاهرة مفكر
كل فكر يتشكل في عقل المفكر هو نتاج تصارع مؤثرات مختلفة تحركه أهداف مختلفة. وليس هناك أدل على هذه الحقيقة مثل آرثر كلارك. فالهدف الذي يسعى إليه كلارك هو معرفة حقيقة الإنسان وعلاقته بالكون. وككل أبناء زمانه من البريطانيين سعى للبحث عن أجوبة في الدين، لكنه أصطدم بالكثير من الترهات والخزعبلات التي تروجها الكنسية، وبدلاً من الانقلاب على المؤسسة الكنسية واللجوء إلى الإيمان الغنوصي كما فعل أستاذه ومعلمه هـ. ج. ويلز H. G. Willes، فأنقلب على الدين كلية.
لكن موقف كلارك من الدين لم يكن إلحادياً كما فهم البعض من كلام كلارك وتصريحاته كما لم يكن لا آدرياً، بل فضل اللجوء إلى الإطار الأخلاقي للديانات الشرقية، ولهذا السبب نجده يصرح في إحدى مقابلته الصحفية بأنه بوذي. وقد أثر هذا المنحى في كتابته بصورة قوية، فتجد أفكاره في كتابته هي صدى لمؤثرات شرقية، فيقدم فكرة الذكاء الكوني كرجع لعقيدة وحدة الوجود الهندية كما في روايته "نهاية الطفولة The Childhood’s End" وملحمته أوديسا الفضاء، بينما نجده يتنبأ في روايته موعد مع راما بأن العلماء سوف يبدءون باستخدام الأسماء الأعلام الميثولوجية الهندية للدلالة على الأجسام السماوية بحلول القرن الثالث والعشرين. و نجد أثر الثقافة المحلية في سيريلانكا واضحة في أعماله مثل روايته "ينابيع الجنة The Fountains of the Paradise" والتي استوحى بعض شخوصها من شخوص معروفة في الثقافات الهندية والسيلانية مثل الشاعر السانسكريتي كاليداسا وجعل مسرح أحداثها جزيرة في المحيط الهندي تكاد تنطبق معالمها الطبيعية والحضارية مع سيريلانكا.
كان الخيال العلمي بمثابة طرح كلارك للإجابات التي يعتقدها حول أصل الإنسان ومصيره، ولأنه أراد عن وعي أن يكون طرحه مؤسس على حقائق علمية صلبة، فإنه كان يجنح إلى شحن روايته بتفاصيل علمية دقيقة مستقاة من أحدث الأبحاث التي تتوفر إليه. ولذلك كانت كافة أعماله مصنفة كأدب خيال علمي قوي، وكان وعيه بهذا الشكل الذي أختاره ظاهراً في كتابته ولقاءاته الصحفية ولعل الشاهد الأمثل على هذا هو ما كتبه في تقديمه لروايته "رمال المريخ The sands of Mars" يقول: "هذه الرواية واحدة من روايات الخيال العلمي الحقيقي التي تتناول النظرة الحالمة التي قدمها بيرسيفال لوليل Percival Lowell وإدجار رايز بروز Edgar Rice Burroughs وسي إي لويس C. S. Lewis وراي برادبروي Ray Bradbury هؤلاء السادة الأربعة الذين أكن لهم كل الأحترام". فهو يقدم رواية خيال علمي حقيقي وليست مغامرات كاوبوي في الفضاء من الطراز الشائع آنذاك في الولايات المتحدة وغرب أوروبا.
ولعل سبب اختياري للاقتباس السابق هو أنه يمكن أن يدعم نظرية وعي كلارك بما يقدمه من خيال علمي قوي كما يدعم أيضاً الحقيقية التي تقول أن كلارك كان على علاقة وثيقة بأغلب كتاب الخيال العلمي المرموقين آنذاك. فمثلاً سي إس لويس - الكاتب البريطاني الذي يعرفه العرب من خلال ملحمته "حكايات نارنيا The Chronicles of Narnia" التي قدمتت بعضها أفلام ديزني – كانت تربطه صداقة وطيدة مع كلارك، وكانا يجتمعان بصورة منتظمة في الأعوام 1940-1950 في إحدى حانات أوكسفورد لمناقشة قضايا التقدم العلمي، وقد صرح كلارك غير مرة أنه يعتبر ملحمة الخيال العلمي التي كتبها لويس المسماة بـ "ثلاثية رانسوم" هي من أهم أعمال الخيال العلمي على الإطلاق.
وقد بدأ علاقته مع روبرت هاينلاين عندما بدأ هذا الأخير يراسله بعد عقب نشر كتاب كلارك "استكشاف الفضاء" عام 1951، فقد جمع بينهما اهتمامهما باستكشاف الفضاء. وقد التقيا بعد ذلك عدة مرات، وظلت تربط بينهما الصداقة حتى العام 1984 عندما دارت بينهما مشاجرة بسبب معارضة كلارك لسياسات عسكرة الفضاء لحكومة ريجان وهو الأمر الذي رفضه هاينلاين فكانت القطيعة بينهما. وظلا لا يتبادلان حديثاً حتى توفي هاينلاين عام 1988.
أما علاقة كلارك بعظيموف فقد بدأت في العام 1973 حيث التقيا في نيويورك، وقد أبرما في بينهما اتفاق شفهي بأنه عندما يسأل أي منهما من هو أفضل كاتب خيال علمي؟ يقول كلارك أما إذا سئل أيهم من هو أفضل كاتب علمي؟ فسوف يقول عظيموف. وقد عرف هذا الاتفاق الشفهي باسم معاهدة كلارك-عظيموف، وقد أشار إليها كلارك في بعض كتابته. وقد دامت علاقتهما طيبة حتى وفاة عظيموف في العام 1992.
لكن موقف كلارك من الدين لم يكن إلحادياً كما فهم البعض من كلام كلارك وتصريحاته كما لم يكن لا آدرياً، بل فضل اللجوء إلى الإطار الأخلاقي للديانات الشرقية، ولهذا السبب نجده يصرح في إحدى مقابلته الصحفية بأنه بوذي. وقد أثر هذا المنحى في كتابته بصورة قوية، فتجد أفكاره في كتابته هي صدى لمؤثرات شرقية، فيقدم فكرة الذكاء الكوني كرجع لعقيدة وحدة الوجود الهندية كما في روايته "نهاية الطفولة The Childhood’s End" وملحمته أوديسا الفضاء، بينما نجده يتنبأ في روايته موعد مع راما بأن العلماء سوف يبدءون باستخدام الأسماء الأعلام الميثولوجية الهندية للدلالة على الأجسام السماوية بحلول القرن الثالث والعشرين. و نجد أثر الثقافة المحلية في سيريلانكا واضحة في أعماله مثل روايته "ينابيع الجنة The Fountains of the Paradise" والتي استوحى بعض شخوصها من شخوص معروفة في الثقافات الهندية والسيلانية مثل الشاعر السانسكريتي كاليداسا وجعل مسرح أحداثها جزيرة في المحيط الهندي تكاد تنطبق معالمها الطبيعية والحضارية مع سيريلانكا.
كان الخيال العلمي بمثابة طرح كلارك للإجابات التي يعتقدها حول أصل الإنسان ومصيره، ولأنه أراد عن وعي أن يكون طرحه مؤسس على حقائق علمية صلبة، فإنه كان يجنح إلى شحن روايته بتفاصيل علمية دقيقة مستقاة من أحدث الأبحاث التي تتوفر إليه. ولذلك كانت كافة أعماله مصنفة كأدب خيال علمي قوي، وكان وعيه بهذا الشكل الذي أختاره ظاهراً في كتابته ولقاءاته الصحفية ولعل الشاهد الأمثل على هذا هو ما كتبه في تقديمه لروايته "رمال المريخ The sands of Mars" يقول: "هذه الرواية واحدة من روايات الخيال العلمي الحقيقي التي تتناول النظرة الحالمة التي قدمها بيرسيفال لوليل Percival Lowell وإدجار رايز بروز Edgar Rice Burroughs وسي إي لويس C. S. Lewis وراي برادبروي Ray Bradbury هؤلاء السادة الأربعة الذين أكن لهم كل الأحترام". فهو يقدم رواية خيال علمي حقيقي وليست مغامرات كاوبوي في الفضاء من الطراز الشائع آنذاك في الولايات المتحدة وغرب أوروبا.
ولعل سبب اختياري للاقتباس السابق هو أنه يمكن أن يدعم نظرية وعي كلارك بما يقدمه من خيال علمي قوي كما يدعم أيضاً الحقيقية التي تقول أن كلارك كان على علاقة وثيقة بأغلب كتاب الخيال العلمي المرموقين آنذاك. فمثلاً سي إس لويس - الكاتب البريطاني الذي يعرفه العرب من خلال ملحمته "حكايات نارنيا The Chronicles of Narnia" التي قدمتت بعضها أفلام ديزني – كانت تربطه صداقة وطيدة مع كلارك، وكانا يجتمعان بصورة منتظمة في الأعوام 1940-1950 في إحدى حانات أوكسفورد لمناقشة قضايا التقدم العلمي، وقد صرح كلارك غير مرة أنه يعتبر ملحمة الخيال العلمي التي كتبها لويس المسماة بـ "ثلاثية رانسوم" هي من أهم أعمال الخيال العلمي على الإطلاق.
وقد بدأ علاقته مع روبرت هاينلاين عندما بدأ هذا الأخير يراسله بعد عقب نشر كتاب كلارك "استكشاف الفضاء" عام 1951، فقد جمع بينهما اهتمامهما باستكشاف الفضاء. وقد التقيا بعد ذلك عدة مرات، وظلت تربط بينهما الصداقة حتى العام 1984 عندما دارت بينهما مشاجرة بسبب معارضة كلارك لسياسات عسكرة الفضاء لحكومة ريجان وهو الأمر الذي رفضه هاينلاين فكانت القطيعة بينهما. وظلا لا يتبادلان حديثاً حتى توفي هاينلاين عام 1988.
أما علاقة كلارك بعظيموف فقد بدأت في العام 1973 حيث التقيا في نيويورك، وقد أبرما في بينهما اتفاق شفهي بأنه عندما يسأل أي منهما من هو أفضل كاتب خيال علمي؟ يقول كلارك أما إذا سئل أيهم من هو أفضل كاتب علمي؟ فسوف يقول عظيموف. وقد عرف هذا الاتفاق الشفهي باسم معاهدة كلارك-عظيموف، وقد أشار إليها كلارك في بعض كتابته. وقد دامت علاقتهما طيبة حتى وفاة عظيموف في العام 1992.
أوديسة الفضاء
في العام 1964 التقى كلارك بالمخرج الأمريكي ستانلي كوبريك في نيويورك، حيث عرض الأخير عليه مشروع فيلم عن قصة كلارك القصيرة الحارس The Sentinel – والتي سبق أن نشرها كلارك عام 1948 ضمن مسابقة لهيئة الإذاعة البريطانية. كان من المفروض أن يكتب كوبريك سيناريو الفيلم لكن بعد عدة مقابلات مع كوبريك اقتنعا بضرورة كتابة رواية تجمع تصوراتهم وتخيلاتهم وتكون هي الأساس الذي يكتب عنه الفيلم. وبسبب صعوبات الوقت، انسحب كوبريك من كتابة الرواية، بينما استمر كلارك في كتابتها محاولاً إنهاءها في نفس الوقت المقرر طرح الفيلم فيه عام 1966، لكن صعوبات الإنتاج أخرت الفيلم إلى عام 1968 كما تأخرت الرواية نفسها للعام 1969. وقد حمل كلاً من الفيلم والرواية نفس الاسم وهو "أوديسة الفضاء:2001". ورغماً من العلاقة المشتركة بين الفيلم والرواية إلا أن الرواية تختلف في كثير عن الفيلم الذي بدا غامضاً وغير مفهوم في أجزاءه الأخيرة، حيث يقوم السرد في الرواية بتوضيح هذه البقع الغامضة من النص، لم يعتمد كوبريك السرد أبداً في الفيلم حيث أراده بمثابة عمل بصري في المقام الأول لذلك جاء الفيلم بالرغم من إبهاره وبهرجته إلى أنه غامض، مما يجعلني أعتقد في قراره نفسي أن العلاقة بين الفيلم والرواية علاقة بين قريبين بعيدين يجمعهما جد واحد بعيد.
اتبع كلارك "أوديسا الفضاء: 2001" بثلاثة روايات أخرى، بحيث مثلت الروايات الأربعة ما عرف باسم "ملحمة أوديسة الفضاء". فقدم كلارك "الأوديسة الثانية:2010" للمطابع عام 1982 ثم الجزء الثالث عام 1987 بعنوان "الأوديسة الثالثة: 2061" أما الجزء الأخير للملحمة فقد صدر عام 1997 بعنوان " الأوديسة النهائية: 3001".
القيمة النقدية لأوديسة كلارك تنبع من أن هذا العمل كافي وحده لفهم فكر كلارك الذي يصيغه في إطار من الخيال العلمي. فالأحداث تبدأ بظهور حجر ضخم يطلقون عليه اسم المونوليث Monolith في مستعمرة للقرود فيما قبل التاريخ يؤدي إلى تطورهم وهو ما يظهر في اكتشافهم للأدوات البسيطة التي سرعان ما تنقلب أدوات للقتل!. ثم ننتقل إلى المستقبل وتحديداً العام 1999 حيث يتم اكتشاف مونوليث مشابهة على سطح القمر، تبث إشارات إلى أحد أقمار زحل المسمى لابيتوس، فيرسل البشر مركبة مأهولة ويديرها الحاسوب "هال Hal" مصطنع الذكاء، إلا أن الحاسوب يصاب بالجنون ويقتل طاقم المركبة عدا أحدهم – بومان - الذي ينجح في إطفاء الحاسوب، لكن الحاسوب يكون قد خرب المركبة، وبذا يكون على هذا بومان أن يقود مركبته المسماة ديسكوفري -1 في رحلة بلا عودة لأستكشاف ما الذي يحدث على سطح لابيتوس، وهناك يرتقي بومان يرتقي بفضل المونولويث الموجود على سطح لابيتوس إلى كائن من الطاقة الخالصة يستطيع أن يتحرك بين أركان الكون كيفما شاء.
بعد مرور نحو عشرة أعوام تخرج بعثة جديدة مشتركة بين الأمريكيين والروس لتستكشف ما الذي أصاب بعثة ديسكوفري-1 وذلك عن طريق إعادة تشغيل الحاسوب هال. لكن هذه البعثة ينذرها بومان الذي تحول إلى طيف بضرورة مغادرة منطقة زحل حيث أن كائنات فضائية أرقى – صاحبة المنوليث – قررت تدميره حتى توفر ظروف التطور لكائنات بدائية تعيش على سطح قمر زحل المسمى يوربا Europa، فتفر البعثة بمساعدة بومان والحاسوب هال الذي يرتقي بدوره إلى كائن أرقى من الطاقة مثل بومان. تفر البعثة وتشهد انفجار زحل وتحوله إلى شمس جديدة بينما تتردد في مسامعهم عبارة التهديد التي يبثها الحاسوب هال "كل هذه العوالم لكم عدا يوربا فهو لي".
وفي الأعوام التالية يشهد البشر ارتقاء مخلوقات القمر يوربا، لكنهم يفشلون في الهبوط على سطح يوربا، حتى يحل العام 3001 لنلتقي وجها لوجه مع الجنس الفضائي الذي صنع المونوليث. والذين تطوروا خلال ملايين السنين من مجرد ديدان تعيش في الوحل إلى كائنات ذكية ترتاد الفضاء، بحثاً عن الأنواع التي لديها استعداد للارتقاء ومن ثم تقوم بتعجيل ترقيتها – والبشر من هذه الأنواع التي قامت بترقيتها – باستخدام المونوليث وتقوم بالتجارب على هذه الأنواع بهدف الارتقاء بالذكاء، ثم يرحلون تاركين خلفهم المونوليث. وقد بلغ تطور هؤلاء الفضائيين أن أصبحوا أجسام غير مادية متحدة في الكون نفسه. وعند عودتهم للأرض يلقون المونوليث وقد أصبح قادر على الاستقلال والتصرف بعيداً عن برنامجه الأصلي!. في نفس الوقت نجد أن البشر امتدوا لاستعمار أقمار زحل السابقة جانميد وكاليستو وأنهم يخططون للنزول على يوربا، ومن ثم يقررون تدمير الجنس البشري، لكن البشر ينجحون في التخلص من سيطرة الفضائيين عليهم والهبوط على يوربا لبدأ إقامة ودية مع الحضارة الناشئة. ويراقب الفضائيين نجاح البشر ويقرروا منحهم فرصة ثانية حتى تحين النهاية.
الأفكار التي تحتويها الرواية وتدور بها كأنها إعصار قاصف تدور كلها في فلك واحد هو أصل الإنسان وعلاقته بخالقه، ومصير البشر هل هو إلى الارتقاء أم الفناء. فلقد أعتبر كلارك أن لحظة ميلاد الإنسان هي لحظة ارتقاء عقله وليست لحظة ظهور أول أفراد النوع، كما أن مصيره هو الاندماج في الكون والارتقاء إلى الدرجة التي تمكنه من التحكم في مصيره بنفسه، وهذه كلها صدى لمعتقدات كلارك التي طورها عن الفلسفات والأديان الشرقية.
اتبع كلارك "أوديسا الفضاء: 2001" بثلاثة روايات أخرى، بحيث مثلت الروايات الأربعة ما عرف باسم "ملحمة أوديسة الفضاء". فقدم كلارك "الأوديسة الثانية:2010" للمطابع عام 1982 ثم الجزء الثالث عام 1987 بعنوان "الأوديسة الثالثة: 2061" أما الجزء الأخير للملحمة فقد صدر عام 1997 بعنوان " الأوديسة النهائية: 3001".
القيمة النقدية لأوديسة كلارك تنبع من أن هذا العمل كافي وحده لفهم فكر كلارك الذي يصيغه في إطار من الخيال العلمي. فالأحداث تبدأ بظهور حجر ضخم يطلقون عليه اسم المونوليث Monolith في مستعمرة للقرود فيما قبل التاريخ يؤدي إلى تطورهم وهو ما يظهر في اكتشافهم للأدوات البسيطة التي سرعان ما تنقلب أدوات للقتل!. ثم ننتقل إلى المستقبل وتحديداً العام 1999 حيث يتم اكتشاف مونوليث مشابهة على سطح القمر، تبث إشارات إلى أحد أقمار زحل المسمى لابيتوس، فيرسل البشر مركبة مأهولة ويديرها الحاسوب "هال Hal" مصطنع الذكاء، إلا أن الحاسوب يصاب بالجنون ويقتل طاقم المركبة عدا أحدهم – بومان - الذي ينجح في إطفاء الحاسوب، لكن الحاسوب يكون قد خرب المركبة، وبذا يكون على هذا بومان أن يقود مركبته المسماة ديسكوفري -1 في رحلة بلا عودة لأستكشاف ما الذي يحدث على سطح لابيتوس، وهناك يرتقي بومان يرتقي بفضل المونولويث الموجود على سطح لابيتوس إلى كائن من الطاقة الخالصة يستطيع أن يتحرك بين أركان الكون كيفما شاء.
بعد مرور نحو عشرة أعوام تخرج بعثة جديدة مشتركة بين الأمريكيين والروس لتستكشف ما الذي أصاب بعثة ديسكوفري-1 وذلك عن طريق إعادة تشغيل الحاسوب هال. لكن هذه البعثة ينذرها بومان الذي تحول إلى طيف بضرورة مغادرة منطقة زحل حيث أن كائنات فضائية أرقى – صاحبة المنوليث – قررت تدميره حتى توفر ظروف التطور لكائنات بدائية تعيش على سطح قمر زحل المسمى يوربا Europa، فتفر البعثة بمساعدة بومان والحاسوب هال الذي يرتقي بدوره إلى كائن أرقى من الطاقة مثل بومان. تفر البعثة وتشهد انفجار زحل وتحوله إلى شمس جديدة بينما تتردد في مسامعهم عبارة التهديد التي يبثها الحاسوب هال "كل هذه العوالم لكم عدا يوربا فهو لي".
وفي الأعوام التالية يشهد البشر ارتقاء مخلوقات القمر يوربا، لكنهم يفشلون في الهبوط على سطح يوربا، حتى يحل العام 3001 لنلتقي وجها لوجه مع الجنس الفضائي الذي صنع المونوليث. والذين تطوروا خلال ملايين السنين من مجرد ديدان تعيش في الوحل إلى كائنات ذكية ترتاد الفضاء، بحثاً عن الأنواع التي لديها استعداد للارتقاء ومن ثم تقوم بتعجيل ترقيتها – والبشر من هذه الأنواع التي قامت بترقيتها – باستخدام المونوليث وتقوم بالتجارب على هذه الأنواع بهدف الارتقاء بالذكاء، ثم يرحلون تاركين خلفهم المونوليث. وقد بلغ تطور هؤلاء الفضائيين أن أصبحوا أجسام غير مادية متحدة في الكون نفسه. وعند عودتهم للأرض يلقون المونوليث وقد أصبح قادر على الاستقلال والتصرف بعيداً عن برنامجه الأصلي!. في نفس الوقت نجد أن البشر امتدوا لاستعمار أقمار زحل السابقة جانميد وكاليستو وأنهم يخططون للنزول على يوربا، ومن ثم يقررون تدمير الجنس البشري، لكن البشر ينجحون في التخلص من سيطرة الفضائيين عليهم والهبوط على يوربا لبدأ إقامة ودية مع الحضارة الناشئة. ويراقب الفضائيين نجاح البشر ويقرروا منحهم فرصة ثانية حتى تحين النهاية.
الأفكار التي تحتويها الرواية وتدور بها كأنها إعصار قاصف تدور كلها في فلك واحد هو أصل الإنسان وعلاقته بخالقه، ومصير البشر هل هو إلى الارتقاء أم الفناء. فلقد أعتبر كلارك أن لحظة ميلاد الإنسان هي لحظة ارتقاء عقله وليست لحظة ظهور أول أفراد النوع، كما أن مصيره هو الاندماج في الكون والارتقاء إلى الدرجة التي تمكنه من التحكم في مصيره بنفسه، وهذه كلها صدى لمعتقدات كلارك التي طورها عن الفلسفات والأديان الشرقية.
وفاة آخر الكبار
كانت سنوات كلارك الأخيرة سنوات حافلة، فوجد التكريم من أكثر من جهة، فمنحته الحكومة البريطانية وسام الإمبراطورية من مرتبة قائد عام 1998 وهو ما يجعله سير أي فارس، كما منحته الحكومة السيرلانكية عام 2005 أرقى أوسمة البلاد. وأمتد به العمر ليرى العام 1999 دون أن يكتشف البشر أول مونوليث على سطح القمر ولا السفينة ديسكوفري تنطلق في رحلتها إلى زحل في العام 2001، لكنه شهد كارثة التسونامي الذي ضرب سيريلانكا، وتسبب في تدمير مدرسة الغوص التي كان يديرها، لكن منزله نجى من الكارثة.
وفي العام الأخير من حياته راح يعاني من انتشار الشلل في جسمه، حتى انتهى به الحال للعجز عن التنفس وهو ما أدى إلى وفاته. وفي صبيحة التاسع عشر من مارس عام 2009 أعلن طبيب سيريلانكي وفاة السير أرثر سي كلارك، آخر عمالقة الخيال العلمي.
وفي العام الأخير من حياته راح يعاني من انتشار الشلل في جسمه، حتى انتهى به الحال للعجز عن التنفس وهو ما أدى إلى وفاته. وفي صبيحة التاسع عشر من مارس عام 2009 أعلن طبيب سيريلانكي وفاة السير أرثر سي كلارك، آخر عمالقة الخيال العلمي.
د.وسام الدين محمد