شعور يجتاح قلب بسيط يشعر بأن المنطق يفرض على الحياة إرادة الله -عزوجل- ولكن نفوس البشر ترى الوساوس الشيطانية حجة لكي يكونوا ضحايا ذنوب ليسوا من كانوا ينوها، ويدعون ان ابليس واقرانه من الشياطين هم من يجبروهم على ذلك حتى يخسروا رضا ربهم ومكانتهم في خلافتهم للأرض.. ولكن عظمة الخالق في محاسبته للناس على نواياهم ترغم الجميع على الخضوع للحقيقة التي تقر بأن الخير الفطرة الأساسية التي نتمرد عليها لتجربة أي شئ أهوج طائش دون سبب أو مبرر واضح، عندما يغدق علينا الله-عزوجل- من نعمه ننسى فضله ونتعبر أن كل هذه النعم حق بسيط لنا ولم تعد كافية لأننا لا نشبع أبدا وغير ذلك نتكبر على الخشوع لحقيقة أننا عباد الله-عزوجل- ويبدأ بداخلنا الشعور الخبيث من السفور والمجون من مظاهر الدنيا الخادعة ونرغب في تجربة كل ما هو أمامنا حتى نعلم ما به من متع حتى وإن كان فيه أذى لنا.
أي جبروت هذا يجعلنا نتركب اي شئ دنيئ ونتنازل عن انسانياتنا النقية ونحن نعلم أن لا يوجد أجمل من هيأتنا بعد مولدنا ونحن نفعم بالبراءة كأننا صفحة بيضاء لا يدنسها شئ، فلنتخيل انفسنا مكان العديد من المواليد الذين يتوفون لحظة الميلاد ولكن بمنتهى البساطة كنا أكثر حظاً فأخذنا عدة سنوات من الدنيا حتى نختبر معدننا الحقيقي الذي يظهر حسن تصرفنا أو سوء انتهازنا في المواقف الحياتية.. ومن هنا تأتي الأزمة حيث يظن الكثير ان الحياة للرفاهية والتسلية فقط ويغفلون عن مهمة إعمار الأرض، ويبدأ كل منا يظن أن ما يريده لابد ان يأخذه وأن أطماعه لابد ان تتنفذ حتى وإن كانت تتعارض مع حقوق الآخرين وتظهر الأنانية والمنافرات والنزاعات منذ الطفولة وكل هذا بسبب النفس السفلى.
نضر أنفسنا بكمية أفكار خاطئة لأن الكسل منعنا من كل ما نستحق من سعادة بل ومعرفة كل حق من الكون حتى نعرف طريق الخير الذي يضمن لنا الثبات في المكانة المميزة التي تستحقها.. جميعنا نمر بمشاعر حب تجاه الناس ونفكر بهم ونشغل عقولنا بهم ولكن ننسى ان نفكر في الله-عزوجل- الذي يعطينا بدون مقابل وتلقائي عندما نحب عبادتنا ونتأمل ونفكر في الخالق العظيم سيعود هذا علينا بحل كل المشاكل التي هي أقل وأصغر من أي رزق ونعمة نعيش فيها، وستكون الثقة في ايماننا هي المسار الصحيح الذي يعطينا قوة ليس لها تفسير ساذج في الدنيا بل تكون تلك القوة من العقل الذي يتغذى على سلامتك النفسية وعدم السماح للشر بالتواجد حتى تنحدر التعاسة بك في ملل ورتابة ويأس يجعلك تنسى أنك خليفة الله-عزوجل- في الأرض.
يوم بارد ليس من تأثير درجات الحرارة ولكن من كثرت الإرتعاش من ثاني يوم بدون طعام، فقد إستيقذت سالي وهي تنظر في المرآة على عيناها المتورمة من البكاء.. ولكنها مجبرة على الظهور بإبتسامة لامعة ووجه ساطع الألوان من كثرة المساحيق، ولكنها صعقت من صرخة صاحب الخمارة التي تعمل بها وهو يذكر لها الإسم التي تنام وتدعو ان تتخلص منه.. ولكن لم يكن لديها وقت للتفكير لأن الزبائن يرغبون بها وزميلاتها كي ينعشون الرغبات الفاحشة مع الخمور، وبما أنها خادمة لشهوات ذكور الحيوانات الناطقة فليس من حقها أن تشكو من قلة النوم أو الجوع أو الإجهاد.. وعندما خرجت للصالة صدمتها الإضاءات الملونة والأصوات الصاخبة فشعرب بألم مبرح في عقلها، ولكنها أجبرت نفسها بإستعادة أداءها عندما نبهتها زميلتها أن مدير المكان ينتظر سبب ليطردها لأنها لم تعد فاتنة كما كانت وخلال ذلك الأسبوع كسرت ثمانية زجاجات خمر فاخرة!
أكثر ما يجعلها تتحمل إهانات العمل في هذا المكان الموبوء ويجعلها تحرم نفسها من كل شئ يستهلك ما تكسبه من مال أخيها الصغير الذي لم يختار مصيره مع رحلة علاجه في مستشفى العباسية.. ولكن ما كان يتعرض له من سوء معاملة كان سبب كافي بإصابته بالصرع لدرجة متدهورة، ولكن أصبح أخيها عبدالله هو أعظم أمل لديها لإستكمال حياتها معه في سلام.. وهي لا تعير لصاحب الخمارة أي إهتمام من معاملته القاسية لأنها على إستعداد أن تتحمل منه أي إهانة لأنه يساعدها ويرسل راتبها إلى المستشفى لتكاليف علاج أخيها عبدالله، التعب يزداد ورؤية لديها لم تكن واضحة في كم الدخان والإضاءات الملونة ولكنها لابد أن تكون رائعة الإثارة مع أول زبون تجالسه في الصالة، ولم تفيق من حالة الدوار وغياب الذهني التي تصيبها إلا مع صفعة قوية من الجليسها الملوث لأنه لا يتحمل إعياءها وتبلدها معه.. ولكن قوة يد المدير وهو يجرها من ملابسها ويطعن إنسانياتها بأفظع الشتائم كانت هي السبب في إفاقتها ولولا توسل زميلاتها له أن يتركها ترتاح في مكتبه مؤقتًا حتى تستكمل عمل الليلة لكانت في الشارع.
شعور بالكراهية أم شعور بالإنتقام أم شعور بالرغبة في الموت عندما وجدت سالي خطاب مرسل من مستشفى العباسية بوفاة أخيها عبدالله من اسبوع، ولكن مع الرغبة في الفضول جعلتها تبحث وتفتش في مكتب المدير لتجد أكثر من عشرون خطاب من تاريخ عام ماضي بتدهور حالة عبدالله أخيها التي طالت معاناته مع نوبات الصرع، وكانت الخاتمة في حياته كطفل في التاسعة من عمره لأربع سنوات في المستشفى بوفاته من كثرة الألم والإهمال.. فمن شدة الحسرة لم تبكي بل أقسمت أن يموت خالد بأسوء صورة تفنى بها حياة البشر، نعم مدير الخمارة هو خالد أول وآخر حب في حياة سالي وهو أيضًا إبن زوج والدتها.
تحكمات الوساوس الشيطانية كانت سائدة على تفكير سالي وكانت مكيدتها أن تتحلى بأجمل الثياب والعطور والتبهرج حتى تأتي بخالد على إنفراد، وبالفعل تمكنت منه في المكتب ووثقته بالحبال وهي مبتسمة بصمت قاتل حتى لا يستيقذ من إغماءه بأثر ضربتها على رأسه، ولكن خالد لم يحسب انه سيتيقذ عاري في مخزن زجاجات الخمر مقيد بالحبال والمسامير في لوحة مفاتيح الكهرباء وأمامه سالي وهي تبتسم وتحمل غالون من البنزين! وهو لا يحتاج إلى تفسير آخر لما يحدث ولكنه قرر تهديد سالي بأن ما تفعله سيجعلها مجرمة ولن تهرب من الشرطة بفعلتها، فقاطعته بضحكة قوية وهي تقول: وهل هناك ضياع أكثر مما اوصلتني إليه؟ وأقسمت برحمة والدتها أن مقتله سيكون أعظم حدث في الجرائد ووسائل الإعلام.. وألقت في وجهه جميع الخطابات المرسلة من مستشفى العباسية من رحلة عذاب أخيها عبدالله مع المرض حتى وفاته، وكان صراخ الوجع في صوتها وهي تلومه أنه جعلها ساقطة تبيع نفسها في هذا المكان الحقير من أجل آخر أمل لها في الحياة وهو شفاء أخيها بأنها صدقته وهو يقسم لها انه سيرسل راتبها للمستشفى لعلاج أخيها! ولكن كل العجب منه أنه إعترف بذلك لأنه يكرهها ويكره والدتها التي لم تتوفى قضاء وقدر.
"إذا كنت ترغب في فعل شئ واحد من الخير قبل أن أقتلك إجعلني أعرف الحقيقة" هذه هي الجملة الأخيرة التي قالتها سالي قبل أن تعرف من هو شيطان الإنس في حياتها ألا وهو خالد الإنسان الذي جعلها تضيع هي وأخيها و والدتها .. وبدأ خالد في سرد الحقائق؛ من تسعة سنوات بعد أن سافرت هروبًا منك يا سالي بعد أن صرحتي لي بحملك في إبني وأبرحتك ضربًا حتى تخسري هذا الحمل خفت من فعلتي وسافرت، ولكن خبر وفاة والدي أجبرني على العودة وفي العزاء علمت حقيقة أن أخيكي عبد الله أُصيب بالصرع بسبب معاملة والدي السيئة له من ضرب وإهانة وحبس و أن خادمة راضية هرب من المنزل خوفًا من والدتك لأنها رأتها تكتم نفس والدي وقتلته، نعم والدتك قتلت والدي من أجل أن تنتقم لمعاملته لأخيكي عبدالله وإصابته بالصرع وما فعلته انا معك وهروبي بعد اسقاط حملك، ولكن والدي كان كل ما لدي في هذه الحياة وبتشخيص حالة الوفاة أنها أزمة قلبة سترث والدتك نصيبها منه وهي قاتلته فكان يجب أن أتخلص منها.. وكانت فكرة سخان الغاز وهي في الحمام هي سبب خداعي لها كي أقتلها بدون أن أثبت التهمة عليّ وأنا غير نادم على اذلالك وإهانتك وإستخدامك في هذا المكان بدون مقابل وبدلا من ارسال راتبك إلى علاج أخيك عبدالله كنت أوهمك بأن لن يكون لديك مكان غير ذلك وإن هربتِ سيعرف حقيقتك أهل والدك ووالدتك وسيتخلصون من عارك!
لم تكن تستطيع سماع اتهامات وسباب الناس من حولها وهي في عربة الشرطة ترتدي المقبض الحديد في يديها، فهي لم تريد الهروب أو التبرئة من جريمة قتل خالد مدير الخمارة بأبشع صورة وهو مقيد عاري وجسده محترق تمامًا.. فهي إعترفت بما إرتكبته ولم تستغرق القضية أكثر من شهرين ولكن أثناء ترحيلها إلى عنبر الإعدام حاولت الإنتحار من كثرة الكوابس التي تراودها، وفوجئت بأمين الزنزانة بجوارها وهو يخبرها بخطة من وجهة نظره فرصة عمرها أن يساعدها على الهرب من تنفيذ الإعدام! وأعطاها ملابس ومال ومفتاح منزل كي تختبئ به فأسرعت هاربة وهي تشكر الله وتنوي التوبة كي تعطي نفسها فرصة جديدة.. وعاد إليها في المنزل ذلك الرجل أمين الزنزانة الذي كان بمثابة طوق النجاة لها وسألته عن سبب مساعدته لها في الهرب وعرفت انه كان صديق والدها رحمه الله وأنه عرفها من الجرائد وتأكد منها عندما رأى الملف الخاص بها كمحكوم عليها بالإعدام.
بعد فترة لم تكن بقصيرة وتعامل سالي مع صديق والدها أمين زنزانتها السابق وهي تردد دائمًا أمامه أنها لابد أن تسافر خارج البلد وأنها لن تستطيع العيش في منزله طويلاً، وإزداد إلحاحها عندما عرفت أن أولاده الثلاثة يقيمون في بلد عربي فكانت تظن أنه من السهل عليه مساعدتها على السفر والتخلص من كل ذكرياتها المظلمة في البلد؛ فأعرب لها عن رغبته بأخذ كل ما تحصل عليه من أموال لبناء بيت راقي له ولأولاده وستعيش معهم وهي أمنة من أي شر.. وقبل نومها آتاها هاجس شيطاني أن هذا الرجل يمكن أي يكون مثل الرجال التي تعاملت معهم في الخمارة أو مثل خالد فهي لم يعد لديها استعداد أن يستغلها إنسان حيواني آخر، فعلمت ميعاد شراءه للبيت وسرقت كل المال من البيت وهربت وإنتقلت إتصلت بزميلتها في الخمارة وقالت لها انها من طرف سالي الله يرحمها وأنها تريد أن تسلمها متعلقات سالي، وأفضل ما كان يساعدها ارتداءها نقاب يخبئ وجهها وعندما قابلتها زميلتها دخلت بها حمام في مطعم وكشفت عن وجهها وبعد زوال أثر الصدمة وهي تقف امام سالي الهاربة من تهمة الاعدام؛ طلبت منها سالي ان تعرفها برجل يزور لها جواز سفر كي تخرج من البلد ووافقتها زميلتها وأمنت لها مبيت في منزلها حتى تلتقي بصاحب التزوير.
في إنتظارها مجئ زميلتها بعد أن وعدتها أن تتفق لها على مكتب الجوازات المزورة رأت الجريدة التي تحملها مع طلبات المطبخ ومكتوب بها نعي وفاة صديق والدها أمين الزنزانة الذي ساعدها على الهرب بسبب جلطة في نفس يوم سرقتها لماله وهروبها من منزله، وأدركت أنه لم يتحمل خيانتها لأمانته وسرقته لحصيلة أموال عمره التي رغب في بناء منزل له ولأولاده ليعودوا مصر ويعيشوا معه.. فأنهارت من البكاء وأخذت تصرخ بأنها مجرمة خانت أمانة الرجل الذي مد لها يد العون وجازف بنفسه فسرقته وتركته يموت، ولكنها وجدت المبرر المناسب انها ترغب في حياة جديدة والغاية تبرر الوسيلة للهروب من الماضي.. ولم تكن تحسب ما روته عن سرقتها لذلك الرجل من أثر على نظرة زميلتها لها بل رد فعلها أنها خرجت من المنزل وعادت معها الشرطة لأنها لم تكن على الإستعداد أن تثق في سالي بل كانت أشد مكرًا وخذت المال المسروق لنفسها قبل أن تقع سالي في قبضة العدالة.